كيف نقبل العقائد المسيحيّة الصعبة؟
من أكثر النقاط التي تجعل من الإيمان المسيحي إيمانًا مميزًا وفريدًا بين كل الأديان في العالم هو موضوع ضرورة العقائد الصعبة. وما أقصده بذلك هو أن الإيمان المسيحي الذي يُقدّم عقائد غريبة مثل عقيدة الثالوث وعقيدة الميلاد العذراوي لا يُقدّمها بدون ضرورة واحتياج. فالثالوث ليس عقيدة تم القبول بها فقط لكونها حقيقة كتابيّة، وإنّما لأن الثالوث هو ضرورة لحل معضلة وجود الله الأزلي بصفات لا تتغيّر ولا تتبدّل بوجود الخليقة أو بعدم وجودها. وكذلك أيضًا الميلاد العذراوي، فالمسيحيّة لا تُقدّم الميلاد كمعجزة تُدلّل على قوّة وعظمة الله، وإنّما الميلاد العذراوي ضرورة لكي يأتي المسيح من غير زرع بشر. وعلى هذا المقياس نجد أن ما قدّمته المسيحية من حقائق صعبة عن الله لم يكن انقيادًا أعمى وراء نص مُقدّس، وإنما ضرورة صعبة ولكن في ذات الوقت حق مُطلق غير قابل للدحض. ولو لم يكن الأمر كذلك، ولو كان الإيمان المسيحي نتاجًا بشريًا كما يدّعي البعض، لما كان هنالك ضرورة لأن يحتوي على هذا الكم من الحقائق التي تصل إلى حد التعقيد.
من جهة أخرى وكمسيحيّين مُصلحين نجد أنفسنا في مواجهة صعبة أمام إخوة لنا في الإيمان يصفون العقائد التي نتبنّاها بالصعبة والمُعقّدة. ومن الأمثلة على هذه العقائد عقيدة الاختيار، التبرير بالإيمان فقط، سيادة الله المُطلقة وغيرها. وعبر مئات السنين اجتهد رجال الله المُصلحين لكي يضعوا تفسيراتٍ تُبسّط الحقائق الكتابيّة التي علّموها. ولكن مهما كثرت التفاسير سيبقى الحق الإلهي المُعلن أمرًا صعبًا حتى على أولئك الذين يعتقدون به ويؤمنون بحقيقته المُطلقة. لقد تصارع جوناثان إدواردز مع عقيدة سيادة الله المُطلقة لأكثر من ثلاثين عامًا قبل أن يطمئن قلبه. وكثير من رجال الله عبر التاريخ وحتى يومنا هذا يتصارعون مع مبادئ الإصلاح المسيحي. هذه العقائد الصعبة كانت نتاج ضرورة حالها حال العقائد المسيحية العامّة، وليست مجرّد اجتهادات بشريّة. ومن أنعم الله عليه باحتضان هذه الحقائق فليشكر الله على تلك النعمة. ولكن ماذا عن أولئك الذين يتصارعون مع هذه الحقائق الكتابيّة التي لا سبيل لدحضها من كلمة الله؟
تحدّث عالم الفلك الشهير كارل ساغان عن وجود بُعد رابع غير الأبعاد الثلاثة التي نعرفها (الطول، العرض، الارتفاع) وهذا البعد الرابع هو الزمن. ولكي يشرح البُعد الرابع بطريقة مُبسطة لكي يسهل على قُرّاءه فهمه طلب منهم تخيّل شخص مرسوم على ورقة بيضاء. ما هي الأبعاد الموجودة في عالم هذا الشخص المرسوم على تلك الورقة؟ بالطبع لا يوجد ارتفاع بالنسبة له، الأبعاد الموجودة في عالمه هي الطول والعرض فقط لا غير. لذلك لو طلبت من هذا الشخص أن ينظر لليمين ولليسار فسوف يفعل ذلك، ولكن إذا طلبت منه أن ينظر للأعلى وللأسفل فلن يفهم الطلب من الأساس لأنه يعيش في عالم لا يوجد فيه أعلى وأسفل. بينما إذا وُجد شخص في البعد الرابع فسوف يرى الزمن تماماً كما نرى نحن الطول والعرض والارتفاع. سيراه كمجسّم أمامه يستطيع النظر إلى ماضيه وحاضره ومستقبله.
طالما آمن المسيحيّون ولا سيما المصلحون بأن الإنسان كائن محدود يعيش في عالم مادّي الأبعاد، وهو أعمى عاجز عن رؤية البُعد الروحي. هذا لم يكُن نتاج فكرٍ فلسفي إنساني وإنّما حق كتابي مُعلن “ إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللهِ” (رومية 3: 23). أي أن الجميع سقطوا عن رؤية جمال الله وحقيقته، وأصبح هذا العمى الروحي هو الحالة الطبيعية للإنسان كما وصفها بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس (١ كورنثوس 2: 14). لذلك يستطيع الإنسان بكل بساطة أن ينظر للأمور المادّية في هذا العالم، ولكن إن طلبت منه أن يرى الحقائق الروحيّة فسوف يشعر بذات التيه الذي يشعر به ذلك الشخص المرسوم على الورقة البيضاء إن حاول أن ينظر للأعلى.
ونحن رغم إيماننا بالمسيح نعي أن القوانين التي تحكم البُعد الروحي ليست هي ذاتها التي تحكم عالمنا. فإذا أرهقتنا عقيدة الاختيار على سبيل المثال بسبب صراعنا مع موضوع عدالة الله، فعلينا أن نعي أن العدالة التي نحتكم نحن لها ليست هي ذاتها التي يجب أن نُخضع الأحكام الإلهية لها. نسأل أين العدل في أن يختار الله يعقوب ويرفض عيسو، فيجيبنا بولس بأن الله وهو يفعل ذلك الأمر الغير عادل بالنسبة لنا يبقى عادلاً. لأن الله لا يخضع لذات الشروط التي نخضع نحن الخليقة لها.
الإنسان الطبيعي لا يُدرك أمور الله بسبب نقص في ذاته وعجز في حالته، ولا يُمكن للأمور المادّية ومن ضمنها “النقاشات الفلسفيّة، الاكتشافات العلميّة، والحجج البشريّة” أن تُقنعه أو أن تفتح عيونه ليرى ما لا يُرى. بل إن الأمر يتطلّب معجزة حقيقية خارجة عن ذاته لتُمكّنه من ذلك. وهذا ما يسمّيه الكتاب المُقدّس بالولادة الجديدة. فحينما قال الرب يسوع المسيح لنيقوديموس بأنه لا يُمكن أن يرى ملكوت الله إن لم يولد من فوق (يوحنا ٣) فهو بكل بساطة يُعلن أن الإنسان سيبقى دائمًا أعمى إن لم يتدخّل الله في إحداث معجزة حقيقية تمنحه طبيعة روحيّة جديدة تمكُنه من إدراك أمور الله. ولكن حتّى المولودين من الله لن يتمكنوا من حصر الله بالكامل في عقولهم، ولكنّنا نعلم بأنه في يوم ما سنعرف وسنرى وسنلمس ما كُنّا نعجز عن إدراكه في هذا الجسد الضعيف.
بسبب هذه الحقيقة أصرّ اللاهوتي السويسري المُصلح كورنيليوس فان تيل على أن كلمة الله فقط هي التي يجب أن تُستعمل للكرازة وللدفاع عن الإيمان. لأن فيها كنوزًا روحيّة يفتقر إليها أي تركيب آخر. وهذا ما يُطلق عليه “دفاعيات الافتراضات المُسبقة “Presuppositional Apologetics . وهو نظام دفاع لاهوتي يختزل الحق في كلمة الله فقط وفي قدرتها على إعلان الحق الروحي للبشر بقوّة الروح القُدس. لذلك يجب علينا نحن الذين تلقّفنا الحق الإلهي كما علّمته عقائد النعمة أن نبتعد عن كُل المحاولات البشريّة لتزيين معتقداتنا والقبول بها بكل تواضع رغم صعوبتها، مدركين أنّها ضرورة حتميّة وليست مُجرّد تعاليم خاوية.
أنظر بعين الشفقة للكثير من الكتابات اللاهوتيّة التي تحاول الدفاع عن الله في قضايا العنف في العهد القديم. محاولات ضعيفة لتزيين الواقع الذي لا يُمكن إنكاره. والسبب في تلك المحاولات هو التكبّر البشري الذي يدفع المؤمنين لإلباس الله ثوبًا من تفصيلهم لكي يرضى عنهم البشر الطبيعيّين الذين لا يُدركون البُعد الروحي الإلهي. أمّا نحن فيجب أن نبتعد عن ذلك وأن لا نخجل بالحق الذي أعلنه الله عن ذاته وإن كان مُخجلًا أو مُهينًا أو غير منطقي، موقنين أن الله الكامل الذي لا ينقصه شيء لم يُعلن عن ذاته بتلك الطريقة بدون سبب، بل لأن كُل عقيدة جميلة من تلك العقائد المبهرة ضرورية وحتميّة وسيُعلَن من خلالها مجد الله وجماله في يوم المجد.
يُكمل كارل ساغان الحديث ويطلب من قُراءه أن يتخيّلوا شخصًا قام بتحريك يده فوق الورقه، ما الذي سيحدث؟ الشخص المرسوم على الورقه سيرى الظل ولكنه لن يُدرك مصدره. وهذه حالة البشر الطبيعيّين، فهم يرون المسيح ولكن لا يُدركون مصدره. أمّا بالنسبة لنا نحن فإن المسيح هو ظل الله المنعكس على ورقة عالمنا المادّي المحدود، جسّد في ذاته اتحاد البُعدين المادّي “الجسدي” الذي اشترك فيه، والروحي “اللاهوتي” الذي حلّ فيه. لذلك فإن المسيح بالنسبة لنا ليس مجرّد رسول جاء لكي يخبرنا عمّا نعجز عن رؤيته، وإنّما هو التجسيد الحقيقي الذي لمسنا فيه ورأينا فيه ما كُنا عاجزين عن إدراكه من قبل. وهو كافي لأن نقبل من خلاله كُل الحق الإلهي المُعلن لنا مهما كان صعبًا أو مؤلمًا. وحتى يأتي ذلك اليوم المجيد الذي سنعرف فيه أجوبة كل الأسئلة التي حيّرتنا وفضّت مضاجعنا لنعبده بخشوع ورهبة معترفين بمحدوديّتنا أمام كماله اللا متناهي.