كُل الطرق تقود إلى الأنا – داني برماوي

كُل الطرق تقود إلى الأنا

كيف ينجذب الجميع إلى الإنجيل المتمركز حول الذات

آخر ما توقعته وأنا في نقاش ساخن مع أحد أقربائي، وهو يظهر عداوة منقطعة النظير للإيمان المسيحي، بأن يبدي إعجابه بأحد واعظات الإنجيل. بالنسبة له حينما يستمع لتعليمها فهو لا يجد أي مشكلة في أن يتبع كلامها وأن يأخذ به. وقريبي ليس الوحيد، فخلال السنوات الماضية وخصوصًا مع الانتشار الواسع للمواد ذات الطابع المسيحي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، تعرّض عدد كبير جدًّا من المشاهدين لرسائل مسيحية على شكل عظات أو برامج حواريّة، وتمكّن المسيحيون من نشر هذه المواد حتى في أكثر الدول عداوةً للإيمان المسيحي تاريخيًّا، وقاموا بالتأثير على الآف الآشخاص واستمالتهم لرسالتهم وتعليمهم. لذلك اصبح من الطبيعي رؤية البرامج المسيحية على شاشات التلفزيون المختلفة في بيوت غير المسيحيين، أو ملاحظة الاف المتابعين غير المسيحيين لصفحات مسيحية تصنّف نفسها على أنها تبشيريّة. بل أكثر من ذلك أصبحت حكومات بعض الدول العربية تمنح تراخيص للمهرجانات المسيحية العامّة التي يمكن للجميع الاشتراك فيها بغض النظر عن الخلفية الدينية. ما الذي حصل حقًا؟ هل حقق المسيحيون انتصارًا؟ هل أصبحت الدول العربية أكثر تسامحًا تجاههم؟

الزيادة في العرض تؤدي إلى هبوط في السعر، وبالتالي زيادة في الطلب. هذه هي القاعدة الأساسية التي تتحكم في السوق، وما يجعل الأمر مثيرًا هو أن تأثيرات هذه النظرية موجودة في كل مجالات الحياة. خلال العام الماضي مثلًا وبسبب جائحة كورونا ونتيجة لإقبال الدول علي فرض الإقفال، أصبح قبول الفتاة وأهلها بالزواج ليس مشروطًا بإقامة حفل مُكلف (زيادة في العرض)، لذلك لم يعد الزواج مكلفًا كما في السابق (هبوط في الأسعار)، فما الذي حصل؟ حسب تقريرًا أعدته ال بي بي سي فإن جائحة كورونا أدت إلى ارتفاع نسبة إقبال الشباب على الزواج إلى مستويات فلكيّة (زيادة في الطلب).

لقد شهدت المسيحية عبر تاريخها الكثير من الأمثلة على أشخاص فهموا هذه النظرية، وعلموا أنه لكي يحققوا طلبًا مرتفعًا على بضائعهم فعليهم أن يجدوا طريقة لعرضها بشكل واسع يؤدي إلى هبوط في الثمن المدفوع لأجلها. أول من استعمل هذه النظريّة الفعّالة جدًّا هو بطرس الرسول حيث أدرك أن اليهود لن يسمحوا له بعرض بضاعته إلا إذ كانت تعجبهم. وبالتالي قام بالتجاوب معهم وقدّم لهم بضاعة “على ذوقهم” لكي يتركوا له مجالاً لعرضها في أوساطهم وبالتالي يحقق غايته ويزداد الطلب. وبنفس الطريقة استطاع الكثير من المعلمين المسيحيين الغربيين التوغل في الأوساط الأوروبية والأمريكية في بدايات القرن العشرين عبر عرضهم لرسالة غير مهينة للمجتمع الدارويني. وغيرهم الكثير ممن وجد سوق لبضاعته في الأوساط الما بعد حداثية عبر ترويج رسالة تتمحور حول الاختبار البشري وتنتقص من قيمة الدوغما “العقيدة”.

إن المسيحيين في منطقتنا لم يحققوا إنتصارًا، والدول العربية لم تصبح أكثر إنفتاحًا تجاه رسالتهم الأصيلة. بل إن ما حدث هو عرض مُنتج مناسب للسوق، سعره رخيص لا يتطلب أي تضحية، حقق طلبًا متزايدًا. إن الرسالة التي نراها تذاع عبر المنابر المسيحية المختلفة حولنا اليوم لا تختلف كثيرًا عن كل الرسائل التي اعتمدت قاعدة العرض والطلب عبر التاريخ. وهي رسالة لها صفاتها التي تميّزها عن الرسالة الكتابية الأصيلة التي لا تجد لها مكانًا في السوق البشرية، سعرها غالي جدّا، والطلب عليها نادر.

قال لي قريبي إن رسالة تلك الواعظة المسيحية تجتذبه أكثر من الرسالة التي أشاركه بها أنا. بالنسبة له رسالتي متطرفة ومُهينة وتتطلب منه التضحية الفعلية بكل شيء، بينما رسالتها تنبع من أرضية مشتركة يستطيع أن يسمعها وأن يتعلم منها دون الحاجة لدفع ثمن غالي. ما هي رسالتنا التي ندّعي أنها أصيلة، وما هي الرسالة التي وجدت لها مكانًا واسعًا في أسواق الأديان اليوم؟ قد يظن البعض أن الفروق بين الرسالتين كثيرة، لكن في الحقيقة إن الفارق بين رسالة الإيمان المسيحي الأصيل وبين كُل الرسائل الأخرى عبر التاريخ (ومن ضمنها الكثير من الرسائل المصنفة على أنها مسيحية) هو نقطة واحدة فقط.

إن الأرضية المشتركة التي تستند عليها كل الأديان والإيدولوجيات هي الإنسان. فتش في كل البضائع كثيرة العرض وكثيرة الطلب وستجد أنها تسير في إتجاه واحد وهو الإنسان. ماذا يفعل لكي يرضي الله؟ ماذا سينال من بركات إذا فعل؟ وما هي اللعنات التي ستحل عليه إذا لم يفعل؟ كيف يصبح أفضل؟ كيف يتقدم؟ كيف يتخلص من الاكتئاب؟ كيف يتفادى العقاب؟ كيف ينال الثواب؟ كيف يعيش؟ كيف يحصل على السعادة؟ وغيرها الكثير من الأمور التي تتمحور حول الذات واهتماماتها ومخاوفها واطماعها. والحقيقة أن الرسالة المسيحية لا تقف على تلك الأرضية على الاطلاق. ولا حتى تلك الرسالة التي يعتبرها الكثير من المسيحيين متمحورة حول الله لأنها تتضمن دعوة لطاعة الله والخضوع له والالتزام بأوامره والابتعاد عن نواهيه. تلك أيضًا ليست رسالة مسيحية، بل هي ذاتها الرسالة التي تبيعها كل الأديان للبشر.

الرسالة المسيحية الحقيقة متمركزة حول الله بمعنى أنها خبر وليست طلب. خبر بأن الإنسان عاجز عن إحضار أي شيء غير الخطية التي ورثها ويفعلها كما قال مارتن لوثر. خبر بأن الله قد فعل كُل شيء من أجل خلاصنا، بل ومنحنا في المسيح كُل ما نحتاجه ليس في العالم الآتي فقط، وإنما في هذا العالم أيضًا. رسالة الإنجيل مهينة للعالم أجمع لأنها تدمّر أي بر ذاتي استحصل عليه الإنسان بقوته، وهي عدائية تجاه كل الأديان والرسائل التي تُعلن للبشر زيفًا وكذبًا بأنه قادر على فعل أي شيء. رسالة الإنجيل هي دعوة لعبادة الله ليس عن سبيل الاضطرار والخوف والطمع، وإنما عن سبيل اليقين بأنه هو المعبود الخالق الذي أوجدنا لكي نرى جماله فنحيا. فتش في أي رسالة منتشرة اليوم وحاول أن تجد الله، ستتفاجئ بأن دور الله محصورًا فيها بما يفعله الإنسان. يغضب كردة فعل على ماذا يفعل الإنسان، ويرضى كردة فعل كذلك. بينما الله كما عرفناه في المسيح هو فاعل، وأفعاله نابعه مما صنعه هو في المسيح وليس مما يفعله كائن آخر.

الله لا يأخذ من أحد، ولا يعطي إلّا من ذاته. وإن كانت أي رسالة تدّعي أن الله محكوم بما يفعله البشر، أو أن مصيرهم وتقدمهم ومقدار تدخل الله في تفاصيل حياتهم رهنٌ بهم، فهي ليست رسالة الإنجيل. ولذلك فهي رسالة لا يقاومها أحد بل يفتحون لها المنابر والقاعات لأنها لا تُشعرهم بالإهانة ولا تُظهر حقيقة فساد استحقاقاتهم البشرية. وكما وقف بولس الرسول وواجه بطرس لأنه أراد استمالة اليهود برسالة حادت عن الحقيقة، هكذا على الكنيسة المُصلحة أن تقف في وجه من يصنّفون رسائلهم على أنها مسيحية، بينما هم يروّجون لرسالة تتجه إلى ذات المحطة التي يتجه إليها الجميع، وهي “الذات”.