“إسرائيل الله” – ق. فيكتور عطا الله
“لِأَنَّ ٱلَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لَا يَحْفَظُونَ ٱلنَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ. وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. لِأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا ٱلْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلَامٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ ٱللهِ” (غل 6: 13-16).
كان الرسول بولس من أصلٍ عبرانيٍ واضحٍ. وقد حصل على تدريباتٍ هامة عن قوانين وممارسات يهودية في وقته المعاصر، وكان ملتزمًا بها بشدة. اهتدائُه الدراماتيكي للمسيح شكَّل صدمةً ليس فقط لشركاءه في اضطهاد أعضاء كنيسة أورشليم بل أيضًا لأعضاء الكنيسةِ أنفسهم الذين انحدروا من أصولٍ يهوديةٍ مثله. في البدايةِ حقَّ لهم عدم الثقة بإخلاصه للإيمان المسيحي، ومع ذلك فإن محبة بولس للمسيح اصطحبتها غيرة شديدة لتوصيل رسالة الإنجيل لأقرانه اليهود الذين أحبهم جدًّا. وبولس، شأنُه شأنُ باقي الرسل وكُتَّاب البشائر الأربعة، فَهِمَ نصوصَ العهدِ القديم على أن مركزَها هو المسيح بالذات.
إستراتيجيةُ بولس في توصيل رسالة الإنجيل تأسست بعمق على فهمه لقصد الدعوة الإلهيَّة لأب المؤمنين، خادم الرب الأمين، إبراهيم. واضحٌ جدًّا أن الربَ قَصَدَ لإبراهيم أن يبدأَ في خطٍ تصاعُدي نحو مجيءِ نسلهِ الذي فيه تتباركُ جميعُ قبائلِ الأرض. هذا تمامًا ما تنبأت كتبُ العهدِ القديمِ أن يُحققهُ المسيَّا الموعود. ويسوع قضى أربعين يومًا بعد قيامته من الأموات وقبل صعوده إلى السماء، قضاها وهو يفتحُ أذهانَ الرسلِ والمؤمنين الآخرين ليفهموا هذه الحقيقة. هو النسلُ الموعود لإبراهيم، الذي عَنَا اسمُه أبًا لجمعٍ غفيرٍ من الأمم. كُتُبُ العهد القديم علَّمت بوضوحٍ أن قصدَ الله من دعوة إبراهيم ونسلِه هو إظهارُ رحمتِه، وغنى ومجدِ نعمتِه لكلِ الأمم.
وعندما جاء يسوع في النهاية إلى خاصته في إسرائيل لم يستسغ ولم يتقبل كثيرون منهم تعليمَه الواضح بأنه جاءَ ليس لتأسيسِ مملكةٍ أرضيةٍ بل ليفتقدَ بنعمته كافةَ البشرية. رسالتُه التي جسَّدت المحبةَ الإلهيَّة لكلِ بني البشر ضايقت وعثَّرت الكثيرين من القادةِ الدينيين والسياسيين في إسرائيل. وحتى بين معاصريهِ اليهود الذين تقبَّلوا رسالتَه الخلاصية، كان بينهم كثيرون يتمسكونَ بعنادٍ شديد بأنهم شعبٌ خاصٌ لا مثيل لهم، وقد اقتنعوا بأن ممارسةَ فريضةِ الختان ميَّزتهم عن باقي البشر. وإذ تكاثر عدد المؤمنينَ من بين اليهود وغير اليهود، صارت هويتُهم بعد تأسيسِ كنيسةِ أنطاكية “مسيحيون”. ومع ذلك، فبعضُ المؤمنين من اليهود نادوا بشدةٍ بضرورةِ اختتانِ وتهويدِ المؤمنينَ الذين يأتون من أصلٍ غير يهودي. هذا الأمرُ تسبب في خلافاتٍ حتى بين الرسل والقادة الروحيين الآخرين في الكنيسةِ الأولى، كما أدى إلى مصاعبَ كثيرةٍ لجماعاتِ الإيمان التي تشكلَّت معظمها من مؤمنين غير يهود. هذا كان وضعُ كنيسةِ غلاطية. لكن موقف بولس كان واضحًا فيما يختص بالختان. الختان كان رمزيًّا ومؤقتًا ولم تَعُد له لا حاجة ولا قيمة بين جماعة الإيمان بالمسيح. رأى بولس في ممارسة الختان تناقضًا مع روح دعوة الرب لإبراهيم. في رسالة غلاطية كتبَ يقول: “وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللهَ بِٱلْإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلْأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلْأُمَمِ». إِذًا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ” (غل 3: 8 ،9). ثم واصل قائلًا: “وَأَمَّا ٱلْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لَا يَقُولُ: «وَفِي ٱلْأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ: «وَفِي نَسْلِكَ» ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ” (غل 3: 16).
الرسالةُ واضحةٌ جدًّا. دعى الربُ إبراهيم، واعدًا بالبركة لكل الأمم، عن طريقِ المسيح حتى قبلَ وجود أمة إسرائيل وحتى قبلَ نزولِ الشريعة. الشريعةُ أُعطيت لتذكير الخطاة بحاجتهم للمسيح المُخَلِّص. الإيمانُ بالمسيح هو الذي يغيرُ حياةَ الخطاة، يهودًا كانوا أم أممًا. ينتقل بهم من العداء للرب ويصيِّرهم أبناءً وشعبًا لله.
يواصل بولس قائلًا: “لِأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ: لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلَا يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلَا حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ” (غل 3: 27-29). إنه الإيمانُ بالمسيح أيضًا الذي يُصيّرُ البشرَ أبناءً لإبراهيم. المعموديةُ المسيحيةُ في اسمِ الثالوث الأقدس، الآبِ والابنِ والروحِ القدس، أسَّسها يسوع بالذات، وهي من شأِنها أن تُوثِقَ علاقةَ المؤمنين بخادمِ الرب الأمين إبراهيم. هي علامةُ العهدِ الجديدِ التي تقضي تمامًا على الفوارقِ العِرقيةِ والطبقيةِ والجنسية.
في الفصل الرابع يوضحُ بولس أن أورشليمَ الأرضيةَ فاسدةٌ ومُستعبدةٌ للخطيةِ والعصيان. يقول في غل 4: 26 “وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا، ٱلَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعًا، فَهِيَ حُرَّةٌ”. في الفصل الخامس يتحدثُ عن الحرية التي تأتي مع الإيمان بالمسيح. يقول في غل 5: 1، 2 “فَٱثْبُتُوا إِذًا فِي ٱلْحُرِّيَّةِ ٱلَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا، وَلَا تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ. هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ لَا يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئًا!“.
أما نصُنا في الفصل السادس فهو لم يُعلِن فقط عن عدم الحاجة للختان بل يؤكد أيضًا عن خلوّه من أي قيمةٍ روحيةٍ لجماعة الإيمان بالمسيح. المؤمنون مَوْصوفون على أنهم يسلكونَ حسبَ شريعةٍ جديدة. هذه الشريعة هي الخليقة الجديدة. هُم البشرية الجديدة المخلوقة على صورةِ يسوع الذي هو آدمُ الجديد. إذن، في المسيح يتمتعُ المؤمنون سواءً كانوا يهودًا أو غير يهود بنفس الهوية. هُم أعضاءُ أورشليم السماوية. هُم بحقٍ شعبُ الله بل هُم أيضًا نسلُ إبراهيم. في المسيح أصبحوا إسرائيلَ الحقيقي، إسرائيلَ الله. هُم يتمتعونَ بكلِ بركات دعوة الرب لإبراهيم. كشعب الرب في المسيح وكإسرائيل الله الحقيقي، بغض النظرِ عن عِرقهم، يتمتعونَ معًا بالسلامِ والرحمةِ الإلهية التي حققها المسيحُ بعملِه الكفاري على الصليب.
افتخرَ بولس سابقًا بتعصُبه العرقي والديني، وكان مقتنعًا بأنَ الخِتانَ أعطاهُ، كشخصٍ عبراني، مكانةً تتفوقُ على باقي البشر. في الماضي، كان بولس أيضًا عدوًا لدودًا للمسيح ومُضطهِدًا عنيفًا لأتباعه، أما الآن فهو جزءٌ من الخليقةِ الجديدة، العِرقُ الآدمي الجديد الذي ينتمي له كلُ مؤمنٍ بالمسيح. حرَّرهُ يسوع من الشعور الديني الزائف بتفوقه على باقي البشر. حَقَقَ يسوع كل ذلك لأجلِ خلاصه. أعلنها بولس بوضوحٍ قائلًا:
“وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. لِأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا ٱلْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلَامٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ ٱللهِ” (غل 6: 14-16).