ملكُ المجدِ – القسّ فيكتور عطالله

ملكُ المجدِ

يَتَحَدَّثُ المزمور الرابع والعشرون عن حدثٍ مباركٍ كانت تنتظره السماء والأرض على حدٍ سواء، نعم، صعودُ وتمجيدُ المسيَّا الموعود المنتصر. نقرأ في المزمور الرابع والعشرين:

“لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ، وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا. لأَنَّهُ عَلَى الْبِحَارِ أَسَّسَهَا، وَعَلَى الأَنْهَارِ ثَبَّتَهَا. مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ؟ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِبًا. يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، وَبِرًّا مِنْ إِلهِ خَلاَصِهِ. هذَا هُوَ الْجِيلُ الطَّالِبُهُ، الْمُلْتَمِسُونَ وَجْهَكَ يَا يَعْقُوبُ. سِلاَهْ. اِرْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَارْتَفِعْنَ أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ. مَنْ هُوَ هذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟ الرَّبُّ الْقَدِيرُ الْجَبَّارُ، الرَّبُّ الْجَبَّارُ فِي الْقِتَالِ. ارْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَارْفَعْنَهَا أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ. مَنْ هُوَ هذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟ رَبُّ الْجُنُودِ هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ. سِلاَهْ” (مز 24).

يبدأ المزمور الرابع والعشرون من حيث يبدأ الوحي المبارك في كتاب التكوين التوراتي وينتهي في كتاب الرؤيا الإنجيلي. إنه يبدأُ بالتأكيدِ على الملكيَّةِ والسُلطةِ الإلهيتين في موطنِ جنسنا البشري، أي الكرة الأرضية. يبدأُ الكتابُ المقدسُ بتقديمِ موجزٍ لوقائعِ الخليقة. يعكسُ ذلك الإيجاز حكمةَ وقدرةَ وصلاحَ ونعمةَ ومحبةَ الله. سِجِلُ الخليقةِ يُشيرُ لوجهةٍ مركزية، يُشيرُ لموطنِ خليقةِ الله الخاص جدًّا، أي الإنسان. سِجِلُ الوحي عن الخليقة يُفيدنا بأن الخليقةَ الماديَّة بدأت واكتملت تحضيرًا لخلقِ جنسنا البشري. تَمَّت عملية خلق عالمِنا ولكنها صِيغَت بصورةٍ خاصةٍ لأجل توفيرِ كل الاحتياجات المعيشيَّة لجنسنا البشري. النشاطُ الإلهي المباشر صاغَ جنسنا البشري ولا سواه. نحن فقط وُهِبنا في آدم الأول أنفسًا حيَّة لا تموت، وهي متصلة مباشرةً بالخالق. جنسُنا البشري بمفرده خُلِقَ على الصورةِ والشبه الإلهييْن. لهذا السبب تمتعَ آدمُ بصلةٍ مباشرةٍ وشَرِكَةٍ عميقةٍ مع خالِقِهِ المبارك. هذا تمامًا ما يُركزُ عليه المزمور الرابع والعشرون لأن تلك العلاقةَ الخاصة والرابط العميق بين الإنسان وخالِقِهِ كانا قد فُقِدا.

يُشيرُ المزمور الرابع والعشرون لحقيقةٍ حزينةٍ، ألا وهي الانفصالُ الذي حَدَثَ بين الخالقِ ومخلوقهِ الخاص، الإنسان. حَدَثَ ذلكَ بسبب تجربةٍ مُخادعةٍ من الشرير. هذا بدورهِ قادَ الإنسانَ المخلوقَ للشكِ في نوايا خالقهِ. وهكذا تَمَرَّدَ عليه، والنتيجةُ التعيسةُ كانت في إفسادِ، بل وقطعِ شَرِكَتِهِ العميقةِ بخالقهِ المبارك.

لكن الإلهَ الطيِّبَ المُحِبَ لم يتخلى عن جنسِنا البشري. مزمورُنا يُشيرُ لرغبةٍ إلهيةٍ مُنعِمَةٍ لإعادةِ الإنسانِ للشَرِكَةِ المفقودةِ مع خالقِه. ذلكَ لم يكن مُمكنًا تحقيقُه سوى عن طريقِ شخصٍ بارٍ ومعصومٍ، شخصٍ مُؤَهَلٍ للمثولِ أمامَ عرشِ القداسةِ الإلهي.

بمعنىٍ أخر، كانت الحاجةُ لشخصٍ لم يفتكر أو يرجو أو يعملَ شيئًا خاطئًا. نعم، شخصٌ يبقى أمينًا لِكُلِ تعهُّداتِهِ في محضرِ القداسةِ الإلهية. ولا يُمكن وجودُ ذلكَ الشخص دونَ علاقةٍ بالقداسةِ السماوية. بعكسِ الإنسانِ الخاطئ الساقط، ذلك الشخصُ المرغوبُ لا يتمكنُ من الوجودِ في المحضرِ الإلهي القدوسِ فحسب، بل أيضًا يُحضِرُ معه جيلًا كاملًا للشَرِكَةِ مع الله. وهو إذ يكونُ وسيطًا مُؤَهَلًا بين اللهِ والإنسانِ الخاطئ يُحضِرُ معهُ المفديينَ المتشوقينَ لِخَالِقِهِم. يدعو المزمورُ ذلكَ الجيلَ بالاسمِ يعقوب، أي إسرائيلَ الله.

كان الملكُ داود، كاتبُ المزمور، على وعيٍ بتلكَ الحاجةِ لوسيطٍ قدوسٍ. تَشَوقَتْ نفسُه فعلًا وتَطَلَّعَ بشغفٍ عميقٍ للمبادرةِ الإلهيةِ الموعودةِ بقُدومِ ذلكَ الشخصِ القُدوس. تَبَارَكَ داود بعينيِّ إيمانٍ مَكَّنَتَهُ من رؤيةِ المبادرةِ الإلهية عن ذلك الشخص، ألا وهو المسيَّا الموعود، الذي وُعِدَ في مطلعِ الوحي المبارك على إنه “نسل المرأة”. ذلك الشخص كان دورُهُ الموعودُ هو هزيمةَ إبليس والثباتَ على عِصمةِ قلبهِ وجسدهِ ونفسهِ.

أوحى الروحُ القُدُسُ لفكرِ ونفسِ داود بهذه الرؤيةِ في المزمورِ الرابع والعشرين عن النُصرةِ والخلاص الإلهييْن. وهو كملكٍ، عَرَفَ تمامًا مضمونَ العودةِ مُنتصرًا من المعركة. هكذا عاد المسيَّا الإلهي مُنتصرًا في معركته الروحية. وهو إذ يتمتعُ بالطبيعةِ اللاهوتيةِ والطبيعةِ البشريةِ الكاملتيْن، عادَ لكرسي جلالهِ ومجدهِ خلفَ تلكَ الأبوابِ الدهريات التي حرمت الإنسانَ الساقطَ من القربُ من محضرِ القداسةِ الإلهية. هكذا بعيونٍ روحيةٍ مُباركةٍ كان بإمكانِ داود أن يرى المسيحَ راجعًا لعرشِهِ السماوي كآدمِ الجديدِ الذي قامَ من بين الأموات، بعد أن صَمَدَ ضدَّ الخطيةِ وإبليس المُجَرِّب الشرير، كما ضدَّ مُغريات نظام العالم الشرير. بل كان داود قد أُوحيَ له بنُصرةِ المسيحِ على الموتِ بالذات. هذا سُجِّلَ في المزمور السادس عشر. نعم، دَحَرَ لعنة الخطية.

إن الرؤية في هذا المزمورِ هي عن عودةِ يسوع وعن الأرتاجِ، أو عن بوابات القداسة التي لم يكن مُمكنًا أن تُفتَحَ لشخصٍ آخرَ يتمتعُ بالطبيعةِ البشريةِ سوى يسوع. بمجدِهِ يدخلُ ملكُ الملوكِ محضرَ القداسة. وهو لم يكن مجردَ إنسانٍ عادي، لكنه كالرب المُخَلِّص هو ذلكَ القدوسُ الذي اتَّضَعَ وانضَمَّ لبشريتنا ليحملَ عنا عقابَ خطايانا.

يُختَتَم مزمورُنا بأمريْنِ صارمين مُتتالييْن لتلك الأبواب الدهريات، لكي تَنفَتِحَ ترحيبًا بقدومِ المسيَّا الملكِ المُنتصر. كان على تلكَ البواباتِ أن تَنفَتِحَ طوعًا. كذلك مرتان طُرِحَ السؤالُ عن هويته المَلكِ المُنتصر:

“مَنْ هُوَ هذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟”

الإجابةُ الأولى عن السؤال كانت أنهُ هو “الرَّبُّ الْقَدِيرُ الْجَبَّارُ، الرَّبُّ الْجَبَّارُ فِي الْقِتَالِ”. لكن الإجابةَ الثانية اختلفت بشكلٍ مهمٍ، فهي تصفهُ بأنه: “رَبُّ الْجُنُودِ!” واضحٌ جدًّا أن المسيَّا الموعود هو الملكُ ربُّ المجد، وهو يتمتعُ بكاملِ الألوهةِ وكاملِ الناسوت، وهو لا يعودُ لمقَرِّه السماوي فارغَ اليديْن، بعد نُصرتهِ في المعركةِ الروحيةِ على الأرض. بل هو يعودُ ﮐ“مَلِكُ الْمَجْدِ، رَبُّ الْجُنُودِ”، أي بِصُحبَتِهِ جَمْعٌ غفيرٌ من المفديينَ المُتمتعينَ بِنُصرَتِهِ؛ هو افتداهم بدمِهِ الثمين، صاروا من نصيبِهِ وحَضَّرَ لهم منزلًا سماويًّا مُباركًا. نعم، يسوعُ يؤهلُ كُلَ مَن يثقونَ به ويلتصقونَ به للصعودِ لمحضرِ القداسةِ الرباني. هُم شعبُهُ، هُم شعبُ الله الحقيقي، هم البشريةُ الجديدةُ، من كُل قبيلةٍ ولسانٍ وشعب. وهو لا يُمتِّعهم بحياةٍ جديدةٍ فُضلى على الأرض فحسب، بل يضمنُ لهم في السماءِ حياةً أبديةً. نعم، يسوعُ هو نبيُّنا وكاهنُنا، وهو المسيَّا الموعودُ، ملكُ المجدِ المبارك.