حقيقة الليبراليَّة – د. ق. شريف جندي

حقيقة الليبراليَّة – د. ق. شريف جندي

إن هدف هذه المقالة هو شرح الأبعاد المختلفة للتيار اللاهوتي الليبرالي المتحرِّر الذي تخلَّل كنائس عديدة في منطقتنا العربيَّة بشكلٍ عامٍ وفي بعض الطوائف الكنسيَّة في مصر بشكلٍ خاص. وللمتابعة الجيدة أذكر عدة نقاط هامة مبنيَّة على كتاب “المسيحيَّة والليبراليَّة” للمؤلف ج. جريشام مايتشن.

أولًا، إن جذور التيار اللاهوتي الليبرالي هي فلسفة الطبعانيَّة أو الطبيعانيَّة (المذهب الطبيعي). بمعنى أن الفكر الليبرالي يرفض رفضًا باتًا كل ما هو فوق طبيعي. فهو يجعل من عقل الإنسان المعيار الرئيسي والأساسي والنهائي للحكم على الأمور وتقييمها وفهمها. فالإنسان بحسب الليبراليَّة هو سيِّد الكون ومركزه. وبالتالي فالليبراليَّة ترفض التدخُّل فوق الطبيعي لعمل الله في الخلق أو العناية أو الفداء في المسيح. فالفكر الليبرالي ليس فقط نظامًا فكريًّا مختلفًا عن المسيحيَّة لكنه أيضًا ينتمي إلى فئة مختلفة لتصنيف الأديان. بمعنى أخر، الفكر الليبرالي ليس فرعًا من فروع المسيحيَّة، وليس منهاجًا مسيحيًّا في التفكير، لكنه نظامًا فكريًّا مبنيًّا على أسس ضد ما تُبنى عليه المسيحيَّة. فالمسيحيَّة الكتابيَّة تتأسَّس على مبادرة إعلان الله عن ذاته للإنسان في الخلق والعناية والفداء. وبالتالي فالمسيحيَّة أساسها هو العمل فوق الطبيعي لله كخالق وضابط الكل. الليبراليَّة في المقابل لا تقبل التدخُّل الإلهي في شؤون البشر وترفض كل ما هو فوق طبيعي. لهذا فافتراض أنه توجد “مسيحيَّة ليبراليَّة” هو تناقض مصطلحي ذاتي. لأن المسيحيَّة لا يمكنها أن تكون ليبراليَّة. والليبراليَّة في صميم تكوينها هي ضد المسيحيَّة. ومن هنا فكل من يتبع الفكر الليبرالي هو غير مسيحي وينتمي إلى تصنيف ديني آخر غير المسيحيَّة حتى وإن لقَّب نفسه “بالمسيحي” أو اشترك في مظاهر خارجيَّة للفكر المسيحي.

ثانيًا، تركِّز الليبراليَّة في تعاليمها على التطبيق دون العقيدة. ينادي مُعتنق الفكر الليبرالي بأن المسيحيَّة هي حياة وليست عقيدة. ولهذا فهم يقلِّلون من أهميَّة العقيدة ويشدِّدون على التطبيق العملي لمبادئ الدين. الخطورة في هذا الفكر وما يجعله ضد المسيحيَّة هو أن المسيحيَّة هي حياة مبنيَّة على تعاليم كتابيَّة لأحداث تمت في التاريخ الإنساني. فالمسيحيَّة تأسَّست على أحداثٍ تاريخيَّة لعمل الله عبر تاريخ الإنسان. فالتلاميذ الأوائل نادوا برسالة الفداء والتي على أساسها تتغيَّر الحياة. فالمسيحيَّة ليست طريقة حياة بالمعنى المعاصر ولكنها حياة جديدة يحياها الإنسان بناءً على رسالة لها أبعاد تاريخيَّة. أعلن تلاميذ ورسل المسيح والكنيسة الأولى في إقرار إيمانهم أن “المسيح مات”، وهذا حدث تاريخي؛ ثم أعلنوا “المسيح مات من أجل خطايانا”، وهذه عقيدة. فبدون التاريخ والعقيدة لا توجد مسيحيَّة. فسرد الحقائق هو التاريخ، وسرد الحقائق مع شرح معاني الحقائق هو العقيدة. لهذا فالفارق الجوهري بين المسيحيَّة والليبراليَّة هو أن إجمالي الليبراليَّة يأتي في صيغة الأمر (افعل، اصنع، عش… إلخ) ذات النزعة الإلزاميَّة، بينما المسيحيَّة تبدأ بحدث خبري انتصاري (المسيح مات من أجل خطايانا وقام من أجل تبريرنا). تستهدف الليبراليَّة إرادة الإنسان بينما تُعلن المسيحيَّة عمل نعمة الله. لذا فالمسيحيَّة تُبنى على حدث تم في تاريخ الإنسان، ومهمة الخادم المسيحي الرئيسيَّة هي الشهادة لهذا الحدث.

ثالثًا، تختلف الليبراليَّة بشكلٍ جذري عن المسيحيَّة في نظرتها لله والإنسان. فالليبراليَّة لا تسعى لمعرفة الله بل تكتفي فقط بالشعور بحضوره. يرى بعض الليبراليُّون أن السبيل لمعرفة الله هو فقط من خلال المسيح. وفي هذا خطأ كبير. فالمسيح نفسه أدرك أنه توجد طرق أخرى لمعرفة الله منها الطبيعة التي خلقها الله والتي تُعلن عن مجده وعظمته (مزمور 19: 1–6)، والناموس الطبيعي المكتوب في قلوب البشر وهو ناموس الله، وأخيرًا معرفة الله مُعلَنة لنا في الكتاب المقدس (مزمور 19: 7–11).

تنادي الليبراليَّة بأبوَّة الله الكونيَّة، وهذه الفكرة لا أساس لها في تعاليم المسيح. ففي حين أن الله هو أبو كل البشر بالخلق والعناية، يجعل الليبراليُّون من هذا “جوهر المسيحيَّة” بينما يُعلِّم العهد الجديد بأن أبوَّة الله الخاصة والمحدَّدة هي فقط لشعبه الذي فداه المسيح بموته وأصبح ضمن عائلة الإيمان. فبينما يشدِّد الليبراليُّون على أبوَّة الله لكل البشر، تحدَّث المسيح عن غضب الله ودينونته على جميع فجور الناس. فالله حقًا هو أبٌ محبٌّ ولكنَّه ليس أبًا محبًا لعالم فاسد وإنما لكل من قد جذبهم هو لملكوته بعمل ابنه يسوع المسيح.

في مقابل الفكر الليبرالي لأبوَّة الله الكونيَّة، تركِّز المسيحيَّة على صفة جوهريَّة لله وهي تعاليه وتساميه عن كل شيء وكل شخص. فهناك فارق شاسع جدًا بين الخالق والمخلوق. الخالق غير محدود أما المخلوق محدود، والخالق بار وقدُّوس أما الإنسان المخلوق ففاسد ومليء بالشرور.

إن تركيز المسيحيَّة على فساد طبيعة الإنسان وبشاعة الخطيَّة هو ما يقف في مقابل الليبراليَّة والتي قد تجاهلت الوعي والشعور الحقيقي بفظاعة الخطيَّة وتأثيرها ونتائجها. فالليبراليَّة تضع ثقتها العُليا في صلاحِ الإنسان. ففي حين أن الليبراليِّين يعترفون بالشر الموجود في العالم، يُنادون بأنَّه يمكن التغلُّب على هذا الشر بالخير الموجود أيضًا في العالم. فلا حاجة لأي مُساعدة من خارج العالم. ومن هنا تشترك الليبراليَّة مع الوثنيَّة في الاعتقاد بأن الغاية العُظمى لوجود الإنسان هي في خلق مجتمع صحي ومتناغم وسعيد يتَّسم بقدرات إنسانيَّة متطوِّرة. فللوثنيَّة اتجاه متفائل من نحو طبيعة الإنسان دون أي مساعدات خارجيَّة، بينما المسيحيَّة هي ديانة القلب المنكسر. وفي حين أن المسيحيَّة لا تنتهي بالقلب المنكسر، إلا أنها تبدأ بالوعي الحقيقي لبشاعة الخطيَّة.

رابعًا، رأينا أن الليبراليَّة قد أخطأت في نظرتها لله الحي وحقيقة الخطيَّة، هذا يقودنا لخطوة أخرى وهي مصدر العقيدة نفسها. ففي المسيحيَّة مصدر العقيدة هو الكتاب المقدَّس المُوحَى به من الله. فالكتاب المقدَّس يحوي تقريرًا إعلانيًّا من الله للإنسان لا نجده في أي مصدر آخر. هذا الإعلان يشمل في جوهره على طريق الخلاص والذي من خلاله يمكن للإنسان أن تكون له علاقة مع الله الحي الحقيقي. فطريق الخلاص قد أعدَّه ابن الله بموته وقيامته وهذا الحدث يشهد له العهد القديم ويتمركز حوله العهد الجديد. فالمسيحيَّة إذن لا تعتمد على أفكار معقَّدة وإنما على سرد حدث تاريخي. وهذا الحدث التاريخي قد أتمَّ الخلاص في الماضي وتأثير هذا الحدث باقي معنا لليوم. الليبراليَّة في المقابل تجعل من الاختبار الشخصي للشعور بالحضور الإلهي كل ما هو ضروري لسعادة الإنسان. أما المسيحيَّة فترى أن الاختبار الإنساني لا بد وأن يُبنَى على حدث تاريخي. فالاختبار المسيحي يمكن استخدامه بشكل صحيح عندما يؤكِّد على الدلائل المُوَثَّقة تاريخيًّا وعندما يساعدنا على الاقتناع بصحة الأحداث التاريخيَّة التي يسجِّلها لنا الكتاب المقدَّس. ولكن الاختبار في ذاته لا يجعلنا مسيحيِّين سواء تمَّت الأحداث أم لم تتم.

تؤمن المسيحيَّة بعصمة الكتاب المقدَّس وخلوِّه من أي أخطاء سواء تاريخيَّة أو علميَّة أو جغرافيَّة. ذلك لأن مصدر الكتاب المقدَّس هو الله نفسه (2 تيموثاوس 3: 16). والله المعصوم من الخطأ لا يُقدِّم إعلانًا غير معصوم. ولأن الكتاب المقدَّس خالٍ من الخطأ فهو الدستور الوحيد المعصوم للإيمان والأعمال. فالله الذي يعبده المسيحي هو إله الحق وكل ما أوحى به هو حق (يوحنا 17: 17). فبينما هناك تفاوت في القوالب الأدبيَّة للنصوص المختلفة في الكتاب المقدَّس ترجع لاختلاف الكتَّاب البشر الذين استخدمهم الله لتدوين إعلانه، إلا أن ما كتبوه ليس مجرد كلام البشر وإنما كلام الله حقًا. لهذا فالاتِّكال على كلام البشر هو عبوديَّة، بينما الاتِّكال على كلمة الله هو الحياة ذاتها. وهنا نرى أيضًا أن الليبراليَّة والمسيحيَّة مختلفين تمامًا عن بعضمها البعض. فأساس المسيحيَّة هو الكتاب المقدَّس الذي تبني عليه طريقة تفكيرها وحياتها، بينما أساس الليبراليَّة هو المشاعر المتقلِّبة للإنسان الفاسد.

تنادي الليبراليَّة بأن الكتاب المقدَّس “يحتوي” على كلمات الله ولكنه ليس هو نفسه كلمة الله. ويستخدم الليبراليُّون تعبيرات مخادعة في تعاليمهم. مثلًا يقولون إن الكتاب المقدَّس “يُصبح” كلمة الله لك عندما تقرأه وتستوعبه. والخطورة هنا هي جعل سلطان الكتاب المقدَّس يتوقَّف على استيعاب الفرد له، ومن هنا أصبح الأمر شخصي وليس موضوعي. أيضًا يرفض الليبراليُّون عصمة الكتاب المقدَّس وخلوَّه من الخطأ وذلك لأنهم ينادون بوحي الفكرة والتي صاغها الإنسان بطريقته بينما تسلَّلت أخطاء هذا الإنسان في صياغته للفكرة. المشكلة هنا هي أن اللفظ وعاء لنقل الفكرة، فإن كان اللفظ خاطئ فبالضرورة الفكرة التي ينقلها اللفظ تكون خاطئة وغير صحيحة. فالفصل التام بين الفكرة واللفظ هو فصل وهمي غير صحيح.

تعلن المسيحيَّة في المقابل بأن الله أوحى بالروح القدس بكل كلمة في المخطوطات الأصليَّة للأسفار المقدَّسة. فالوحي في المسيحيَّة هو وحي لفظي استخدم فيه الروح القدس مفردات تعكس خلفيَّة الكاتب الثقافيَّة ونشأته البيئيَّة دون أن يتسرَّب أي خطأ من الكاتب لما يدوِّنه. فالعصمة هنا ليست في الكاتب نفسه ولكن فيما كتبه حيث أوحى له الروح القدس بكل كلمة كي يدوِّنها. وهكذا فالمخطوطات الأصليَّة خالية تمامًا من أي خطأ. وحقًّا نحن لا نملك اليوم أي من هذه المخطوطات الأصليَّة. وذلك بحسب حكمة الله العظيمة حيث يعلم بأن الإنسان لديه نزعة لصنع الأوثان من أشياء مثل هذه وقد يقدِّس ويعبد المخطوطات الأصليَّة نفسها دون الاهتمام بمحتوى النصوص المُوحَى بها. فربما كان سيعتقد الإنسان بأن المخطوطات الأصليَّة لديها قوَّة سحريَّة وسريَّة في الورق أو الحبر نفسه. مع ذلك نحن نمتلك آلاف المخطوطات لأسفار الكتاب المقدَّس والتي عند مقارنتها ببعضها وبما بين أيدينا اليوم من أسفار في الكتاب المقدَّس نرى أنها تتطابق مع بعضها البعض بشكلٍ كبيرٍ وندرك بأن لدينا سجل صحيح تمامًا لما كان في المخطوطات الأصليَّة.

خامسًا، اختلاف الديانتين الليبراليَّة والمسيحيَّة في نظرتهما لمضمون الرسالة المسيحيَّة فيما يختص بالله والإنسان، واختلافهم في مصدر هذه الرسالة وهو الكتاب المقدَّس، يقود لاختلاف آخر في وجهة نظر كل منهم للشخص الذي تتأسَّس عليه هذه الرسالة وهو المسيح. بالنسبة للمسيحيَّة المسيح هو هدف وموضوع الإيمان. فلبولس مثلًا عمل المسيح الفدائي هو أمر أساسي وجوهري. الإيمان عند بولس ليس مجرد إيمانًا في الله مثل إيمان المسيح ولكنَّه الإيمان في المسيح. الليبراليَّة في المقابل تجعل من المسيح مثالًا وقدوةً للإيمان. بمعنى أنه مجرد إنسان عاش حياة صالحة يستحق بسببها أن يكون قدوة يُحتذى بها. فالمسيح بحسب الليبراليَّة هو مثالًا للإيمان وليس موضوعًا أو هدفًا للإيمان. بمعنى أدق، بحسب الليبراليَّة يسوع هو مؤسِّس المسيحيَّة لأنه هو أول شخص مسيحي، وبالتالي فالمسيحيَّة بالنسبة لهم هي استمرار لتلك الحياة الدينيَّة التي أسَّسها يسوع.

والسؤال هنا، هل حقًا كان يسوع مسيحيًّا؟ بمعنى آخر، هل يمكن أن نجعل من المسيح مثالًا نقتدي به في كل الجوانب؟ هناك عدة إشكاليَّات تنبع من هذا السؤال. أول هذه الإشكاليَّات هو وعي المسيح بطبيعته المسيانيَّة. فالمسيح كان مدركًا تمامًا أنه ابن الله العتيد أن يدين كل الأرض. وما يتبع هذه الإشكاليَّة هو اتجاه المسيح من نحو الخطيَّة. فالمسيح كان معصومًا من الخطيَّة بل ولم يكن فيه خطيَّة مطلقًا. فإن كانت المسيحيَّة في جوهرها طريقًا للخلاص من الخطيَّة، فيسوع إذن لم يمكن مسيحيًّا لإدراكنا أنه لم يكن لديه خطيَّة يحتاج الخلاص منها. فلماذا إذن ارتبط اسم اتباع المسيح الأوائل به؟ لقد ارتبطوا باسمه ليس بسبب كونه مثالًا وقدوةً لهم في الخلاص من الخطيَّة، ولكن لأنَّه هو نفسه وسيلة خلاصهم من الخطيَّة. إن علاقة المسيح بالآب مؤسَّسة على بنوَّته الأزليَّة أمَّا المسيحيَّة فهي تجعلنا أبناءً لله بالتبنِّي بفضل عمل المسيح الكفاري.

لذا فالليبراليَّة تجعل من المسيح مثالًا وقدوةً، وتجعله قائدًا ومرشدًا، أما المسيحيَّة فترى المسيح مُخلِّصًا وفاديًا، وإنسانًا فوق طبيعي، لأنه هو الله المتجسِّد، وهو موضوع الإيمان وهدفه. فعندما ترفض المعجزات وكل ما هو فوق طبيعي يتبقى لك مسيحًا إنسانًا طبيعيًّا أثَّر في تابعيه لدرجة أنه بعد موته لم يستطيعوا أن يصدِّقوا أنه قد مات ورحل عنهم، فانتابتهم هلاوس من خلالها اعتقدوا بأنهم رأوه ثانيةً مُقامًا من الأموات. لكن عندما تقبل المعجزات وعمل الله فوق الطبيعي عندها ترى المسيح مُخلِّصًا جاء طوعًا واختيارًا لهذا العالم لأجل خلاصنا، وتألَّم من أجل خطايانا على الصليب، وقام ثانيةً من الأموات بقوةِ الله، ويحيا أبدًا ليشفع فينا.

من هنا رأينا أن الليبراليَّة ترى المسيح مختلفًا عن باقي البشر في الدرجة أو المكانة كونه مُعلِّمًا صالحًا وقدوةً حسنة، بينما لا تراه مختلفًا في النوع كونه ابن الله المُتجسِّد وله طبيعة إلهيَّة فوق طبيعيَّة.

سادسًا، بجانب اختلاف الليبراليَّة عن المسيحيَّة في نظرة كلٍ منهما لله والإنسان، ثم في نظرتهم للكتاب الُمقدَّس الذي يحوي الأخبار السارة، ثم في نظرتهم للمسيح الذي أتمَّ عمل إنجيل الأخبار السارة، فلا عجب إذن إن رأينا الليبراليَّة تختلف عن المسيحيَّة في صياغتها لمفهوم الأخبار السارة نفسها. فالليبراليَّة تُقدِّم مفهومًا مختلفًا تمامًا عن طريق الخلاص.

المسيح بحسب المسيحيَّة هو مُخلِّصنا ليس بفضل ما قاله، ولا حتى بفضل شخصه، ولكن بفضل ما صنعه. فهو مُخلِّصنا ليس لأنه مصدر إلهامنا كي نحيا حياة تتشبَّه بحياته، ولكن لأنَّه أخذ في نفسه ذنب خطايانا البشع وحمله نيابةً عنَّا في الصليب. هذا هو مفهوم الخلاص وصليب المسيح بحسب المسيحيَّة الكتابيَّة.

في المقابل تُقدِّم الليبراليَّة نظريَّات عديدة لشرح كفَّارة وفداء المسيح. مثلًا، تشرح الليبراليَّة موت المسيح باعتباره مجرد مثالًا للتضحية وبذل الذات علينا أن نضاهيه؛ أو أن موت المسيح يُظهر كم يكره الله الخطيَّة لذا نحن أيضًا علينا أن نكره الخطيَّة؛ أو أن موت المسيح يُظهر محبَّة الله. بناءً على كل هذه النظريَّات تتجاهل الليبراليَّة حقيقة وواقع ذنب الخطيَّة المرير وتُقدِّم في المقابل مجرد يقينًا بإرادة الإنسان على اعتبار أنها كل ما هو مطلوب للخلاص. وفي حين أن هذه النظريَّات المختلفة لها جوانب من الحق، فموت المسيح هو مثالًا للتضحية بالذات يحث الأخرين على بذل بالذات، وموت المسيح أيضًا يُظهر أن الله يكره الخطيَّة ويُعلن محبَّة الله. كل هذه الحقائق موجودة حقًّا في العهد الجديد ولكنها مُتضمَّنة داخل حقيقة أعظم وأسمى بكثير وهي: أن المسيح مات عنَّا لكي يُوقفنا بلا عيب قدام عرش الله. فبدون هذه الحقيقة المركزيَّة يصبح الباقي كله خالٍ من أي معنى. فمثال بذل الذات هو بلا قيمة لمَن هم تحت ذنب وعبوديَّة الخطيَّة. ومعرفة كراهيَّة الله للخطيَّة يُمكنها في حد ذاتها أن تجلب لنا الإحباط. وإظهار محبَّة الله هو مجرد استعراض ما لم يكن هناك سببًا يقف خلف هذه التضحية.

ومن هنا نجد أن طريق الخلاص في المسيحيَّة من خلال صليب المسيح يعتمد على حدث تاريخي. فالمسيحيَّة تعتمد بشكل أساسي على التاريخ. وإن لم يكن هذا هو الحال، أي استقلال المسيحيَّة عن التاريخ، لأصبح لا وجود للإنجيل. لأن “الإنجيل” يعني “الأخبار السارة” أي أخبارًا أو أنباءً عن حدث قد تحقَّق. فالإنجيل بدون التاريخ هو تناقض مصطلحي.

لهذا يرفض الليبراليُّون المسيحيَّة لاعتمادها على التاريخ، وينتقدونها لأنها تدعوا إلى طريق ضيِّق في الخلاص. بمعنى أنه بحسب المسيحيَّة يوجد طريق واحد فقط للخلاص، وهو المسيح. وبالفعل ما يُميِّز المسيحيَّة هو كونها تقتصر في فهمها للخلاص على عمل المسيح وحده. فالخلاص هو بالمسيح وحده. وما يجعل الأمر أشد جديَّة هو أن المسيحيَّة لا تُركِّز فقط على كون المسيح هو الطريق الوحيد للخلاص، لكنها أيضًا تُعلن وبكل وضوح رفضها لأي طريق آخر للخلاص. ففي عمل الخلاص يكسينا الله ببر المسيح كرداء حيث نقف في المسيح بلا عيب أمام عرش القضاء.

سابعًا، يُركِّز الليبراليُّون على أخوَّة كل البشر الكونيَّة. بمعنى أن كل البشر بغض النظر عن الجنس والزمان والمكان هم إخوة. وبينما يوجد جانب من الصواب في هذا التعليم حيث إن لكل البشر نفس الخالق ونفس الطبيعة البشريَّة. لكن في نفس الوقت تُشدِّد المسيحيَّة على نوع آخر من الأخوَّة. إنها العلاقة الحميمة التي يؤسِّسها المسيح بين مَن يؤمنون به. فأي رجاء لإصلاح البشريَّة والمجتمع هو مبني فقط على الأخوَّة التي تنشأ بين الخطاة المولودين ثانيةً، أي المفديين. ولهذا تختلف المسيحيَّة عن الليبراليَّة في نظرة كل منهم للعمل الاجتماعي وإصلاح المجتمع. فبينما تُركِّز الليبراليَّة على الخير والصلاح الذي يفترضون وجوده في الإنسان تُؤكِّد المسيحيَّة على فساد وشر الإنسان وحاجته لفداء المسيح، وعندها فقط ينال الحياة الجديدة والتي بدورها تنعكس على سلوكه في المجتمع وتصلح من عاداته وتقاليده.

لقد رأينا حتى الآن كيف أن الليبراليَّة هي ديانة أخرى غير المسيحيَّة وتختلف بالكامل عنها في عدِّة أوجه وهي: نظرة كل منهم لله والإنسان، ومفهوم كل منهم عن الكتاب المقدَّس ووحيه وعصمته، ورؤية كل منهم لشخص وعمل المسيح، وفهم كل منهم للخلاص وإصلاح المجتمع. نأتي الآن لبعض التطبيقات العمليَّة للفكر الليبرالي في الواقع المعاصر.

بعض مظاهر التعاليم الليبراليَّة في مصر والعالم العربي

هناك عدة أوجه لتطبيقات الفكر الليبرالي بشكل عملي في مجتمعنا المصري أذكر منها الآتي:

1) رفض التاريخ وقبول الأساطير: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم تاريخيَّة أحداث الكتاب المقدَّس خاصةً أحداث سفر التكوين (الأصحاحات 1–11) بما فيها قصص الخلق والسقوط وكون آدم وحواء شخصيات تاريخيَّة عاشت في زمنٍ ومكانٍ مُعيَّن كأول خليقة الله من البشر. في المقابل يصر الليبراليُّون على أن آدم وحواء هم شخصيات أسطوريَّة ليس لها أصول تاريخيَّة. وهكذا الأمر في قصة الطوفان ونوح حيث يرفض الليبراليُّون الرواية الكتابيَّة ويُقدِّمون في المقابل نظريَّات تجعل من الطوفان حدثًا محدودًا من الناحية الجغرافيَّة عكس الطوفان الذي غطَّى كل الأرض كما يقدِّمه الكتاب المقدَّس، أو قد ينكرون قصة الطوفان بجملتها. أيضًا يقبل الليبراليُّون نظريَّة التطوُّر في الخلق ويرفضون السرد الكتابي لخلق الإنسان على صورة الله بحسب تكوين 1–2.

2) رفض كل ما هو فوق طبيعي: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم وجود الشيطان ككائن خلقه الله وسقط في الخطيَّة وهو يغوي البشر ويقود الحرب ضد شعب الرب. ويفسِّر الليبراليُّون الاعتقاد بوجود الشيطان على أنه فكرة من اختراع البشر لإلقاء اللوم على كائن آخر يبرِّر من خلاله الإنسان فشله أو إخفاقاته. أيضًا يرفض الليبراليُّون حقيقة الجحيم والنار الأبديَّة ويُعلِّمون بخلاص كل البشر وفق مفهومهم الخاطئ عن رحمة الله وعدله.

3) إعلاء قيمة العقل البشري على السلطان الإلهي: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم المعجزات الكتابيَّة بكل أنواعها بما فيها معجزات المسيح وقيامته بالجسد من الأموات ويُقدِّمون في المقابل تبريرات عقلانيَّة لما “ظنَّه” كُتَّاب أسفار الكتاب المقدَّس على أنه معجزات فوق طبيعيَّة بحسب تفسيرهم.

4) المناداة بصلاح الإنسان: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم حقيقة بشاعة الخطيَّة ويتهاونون في التعامل مع الأشرار بل ولا يعترفون أو يمارسون التأديب الكنسي الذي هو جزء أساسي من وظائف الكنيسة بحسب كلمة الله. كذلك يرفضون حصر الخلاص على عمل المسيح وحده وينادون بأن باقي الأديان والمعتقدات هي طرق مختلفة تؤدِّي في النهاية لنفس المصير من العلاقة مع الله.

5) المناداة بالحريَّة المُطلقة للإنسان: يقبل ويشجِّع القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم الطلاق والزواج ثانيةً لأي سبب وكل سبب تحت الادعاء بأن ثقافة المجتمعات المعاصرة لها من تحدياتها ما لم يكن موجودًا وقت كتابة أسفار الكتاب المقدَّس وبالتالي لا بد من إيجاد طرق وحلول بديلة لما يُقدِّمه الكتاب المقدَّس.

6) رفض وحي الكتاب المقدَّس وعصمته وسلطانه: ينادي القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم بأن هناك فارق بين ما يقوله الله بشكل مباشر في الكتاب المقدَّس وما يدوِّنه الكتاب من خلال أناس على لسان الله. وهذا التقسيم مُضلِّل وزائف. حيث إن كل كلمة في الكتاب المقدَّس هي بوحي من الله ولها نفس السلطان والعصمة. فما قاله داود مثلًا عن الله في سفر المزامير هو بوحي من الله وله نفس سلطان ما قاله الله بنفسه في ناموس موسى. ذلك لأن الكتاب المقدَّس نفسه يشهد لداود وكتاباته على أنه نبي وملك بحسب قلب الله. فالكتاب المقدَّس هو ليس مجرد سجلًّا لخبرة الإنسان مع الله لذا يحوي أخطاء علميَّة وتاريخيَّة، كما يدَّعي الليبراليُّون، لكنَّه في المقامِ الأول رسالة من الله للإنسان، ولهذا فهو معصوم من أي خطأ.

كذلك يُنادي الليبراليُّون أيضًا بأن الثقافة المُحيطة بزمن كتابة الكتاب المقدَّس كانت ثقافة ذكوريَّة أبويَّة تقمع المرأة وتستعبدها. ويدَّعي هؤلاء أن هناك من النصوص الكتابيَّة ما يعكس ذلك. أما فالآن وفي ظل التنوير والتقدُّم والتطوُّر ينبغي أن نعطي المرأة مكانتها بجعلها مساوية للرجل في كل شيء بما فيه السماح للمرأة أن تُعلِّم في الكنيسة وأن تُرتَسم كقسيسة أو راعية بالرغم من رفض الكتاب المقدَّس لذلك بكل وضوح.

7) التمرُّد على النظام الإلهي: يشجِّع القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم على قبول الشذوذ الجنسي مُدَّعين أنه أحد مكوِّنات الجينات البشريَّة التي خلقها الله في الإنسان. وبالتالي ليس هناك ما يمنع من ممارسة الشذوذ خاصةً وأن الأمر مُتعلِّق برغبات الفرد التي ينبغي أن تُحتَرم. ذلك لأنه، وبحسب الفكر الليبرالي، الإنسان هو مركز الكون وليس الله. ومن هنا فهم لا يُمانعون من زواج الشواذ ورسامتهم قسوسًا ومعلِّمين في الكنائس.

8) الوحدة على حساب الحق: ينادي القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم بالوحدة بين أتباع الطوائف المختلفة والأديان المختلفة على حساب المُساومة على الحق. وفي سبيل هذه الوحدة المزعومة يمزجون بين المعتقدات الدينيَّة والعقائد الإيمانيَّة لخلق عقائد جديدة تجمع بين النقيضين في تناغم ظاهري كاذب. نرى هذا مثلًا في ممارسة التواشيح الدينيَّة المُشتركة بين أتباع الديانات المختلفة، وفي المناداة بأن أصحاب الديانات الأخرى، كالإسلام، يعبدون نفس الإله الذي يعبده المسيحيِّين. فنجد القسوس الليبراليُّون يفتتحون أحاديثهم العامة بعبارات مثل: “باسم الله الذي نعبده جميعًا”. فهل حقًا يعبد الجميع نفس الإله؟ ألم يقل المسيح أن من يرفضه يرفض الآب ومن يقبله يقبل الآب؟ (يوحنا 13: 20؛ قارن يوحنا 5: 23–24؛ 8: 19، 42؛ 12: 44-45؛ 14: 7؛ 15: 21، 23).

9) رفض الكرازة والتركيز على العمل الاجتماعي: يرفض القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم الكرازة بإنجيل يسوع المسيح ويركِّزون في المقابل على العمل الاجتماعي الذي يطلقون عليه خطأ “الإنجيل الاجتماعي” حيث إنه لا يوجد سوى إنجيل واحد ولا يوجد آخر بحسب غلاطية 1: 6–7.

10 (رفض النبوَّات الكتابيَّة وخاصةً نبوَّات العهد القديم: يفهم القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم نبوَّات العهد القديم على أنها أسلوب أدبي لكتابة أحداث تمت في الماضي. فمثلًا يعتقد الليبراليُّون بأن نبوَّات سفر إشعياء بالعودة من السبي كُتبت كلها بعد العودة من السبي. والهدف هو تشجيع العائدين من السبي من خلال هذه الكتابات. كذلك يرفض الليبراليُّون نسب الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم لموسى باعتباره الكاتب بالرغم من الشهادات الكتابيَّة الكثيرة على ذلك (شهادة الأسفار الخمسة نفسها لموسى ككاتب: خروج 17: 14؛ 24: 4؛ 34: 27؛ عدد 33: 1–2؛ تثنية 31: 9-11؛ شهادة العهد القديم لموسى: يشوع 1: 7-8؛ 8: 31–32؛ 1 ملوك 2: 3؛ 2 ملوك 14: 6؛ 21: 8؛ عزرا 6: 18؛ نحميا 13: 1؛ دانيال 9: 11-13؛ ثم شهادة المسيح ورسل العهد الجديد: مرقس 12: 26؛ لوقا 16: 29؛ 24: 27؛ يوحنا 5: 45-47؛ رومية 10: 5؛ 1 كورنثوس 9: 9؛ 2 كورنثوس 3: 15). وينسبون الكتابة لمصادر مختلفة كُتبت في وقت متأخِّر جدًا من تاريخ إسرائيل دون وجود دلائل ماديَّة على ذلك.

11) تعليم مركزه الإنسان: يركِّز القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم في علم المشورة على المشورة النفسيَّة التي تعتمد على علم النفس والاجتماع دون الرجوع والاستناد الكلِّي على كلمة الله المقدَّسة ذات السلطان الرئيسي في شؤون البشر. بل إنَّهم يرفضون المشورة الكتابيَّة تمامًا. وهذا يعكس تشديد الليبراليَّة على مركزيَّة الإنسان بالرجوع لعلم النفس، ورفضهم لمركزيَّة الله بعدم الرجوع لكلمته.

من هنا نلخِّص بأن لليبراليِّين إرساليَّة وهدف – إرساليتهم هي تدمير ملكوت الله. فهم في حرب ضد المسيحيَّة يستخدمهم فيها إبليس وأعوانه. بينما إرساليَّة الكنيسة المسيحيَّة كما تسلَّمتها من المسيح نفسه هي الكرازة بإنجيل يسوع المسيح لبناء وامتداد ملكوته بين البشر. علينا أن ندرك أن حربنا ليست مع الليبراليِّين وإن كنَّا نختلف معهم تمامًا ونرفض تعاليهم ونواجهها بل ونقاومهم بإنجيل يسوع المسيح. حربنا الحقيقيَّة هي مع قوات الشر الروحيَّة التي تقف خلف الليبراليِّين تحرِّكهم وتقودهم في إرساليَّتهم لتدمير ملكوت الله. فلأي إرساليَّة تنتمي وفي أي إيمان تعتقد؟

د. ق. شريف جندي