هُزِمَ المَوتُ
المسيحُ قامَ. بالحقيقةِ قامَ. لقد هُزمَ الموتُ! هللويا.
بدأت كنيسةُ العهدِ الجديدِ عبادَتَها واستمرت في أولِ أيامِ الأُسبوعِ، أي في أيامِ الآحاد. الأحدُ أصبحَ السبتَ المُقدَّسَ الجديد. نحن أيضًا نحتفلُ بقيامةِ المسيحِ في كلِ يومِ أحدٍ. كآدمِ الجديدِ، هزمَ يسوعُ عَدوَّهُ وعدوَّنا الأخير، أي الموتَ بالذات، وذلكَ بقيامتهِ المجيدة من الأموات. قبل ذلكَ كانَ يسوعُ قد هزمَ الخطيةَ وروحَ العالمِ المُعادي كما هزمَ عدوَّهُ وعدوَّنا اللدود، الشيطانَ بالذات. على الصليبِ أكملَ يسوعُ عملَ فداءِهِ الانتصاري لأجلِ البشريةِ الجديدة. حقَّقَ ذلكَ بموتِهِ. الحقيقةُ هي أنَّه جاءَ لكي يموتَ. بدونِ موتِهِ لم تكن هناك قيامةٌ نحتفلُ بها. نعم، جاءَ يسوعُ إلى عالمِنا ليموت. نقرأ في الفصلِ الخامسِ عشرِ من بشارةِ مَرقُسِ الإنجيليةِ، الأعدادِ 33 إلى 39:
“وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ، كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: «إِلُوِي، إِلُوِي، لَمَا شَبَقْتَنِي؟». اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: «هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلَأَ إِسْفِنْجَةً خَلًّا وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلًا: «اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!». فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هَكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ: «حَقًّا كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ!»” (مر 15: 33-39).
الساعةُ السادسةُ عَنَت وقتَ الظهيرةِ، ومع ذلك يقولُ الإنجيل:
“كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ” (مر 15: 33). إذَن في مُنتَصفِ النهارِ حدَثَت ظُلمةٌ غَطَّتِ الأرضَ لمدةِ ثلاثِ ساعاتٍ، ويسوعُ مُعلقٌ على صليبِهِ. الظُلمَة تلك شَكَّلَت إشارةً وعلامةً لعَالَمِنا الساقطِ الفاسدِ، وخاصةً لأورشليمِ الأرضيةِ الرافِضةِ لهُ، تَحَدَّثَت الظُلمَةُ عن واقِعَةٍ تاريخية فيها صُلِبَ ربُّ المجدِ يسوع. سياسيو المدينةِ وكهنةُ الهيكلِ كانوا قد تَمَكَّنَوا من إثارةِ الجَمعِ للمطالبةِ بصلبِ يسوع. الحاكمُ الروماني بيلاطُس قامَ بتحقيقٍ دقيق واستنتجَ بأنَّه لم يكُن مُذنبًا بشيء. لكنَّ الجَمعَ أصرَّ على إطلاقِ صراحِ المُجرِمِ باراباس والحُكمِ على يسوعٍ بالموت. بل صرخوا قائلين: “دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا” (مت 27: 25).
قامَ العسكرُ بخلعِ ثيابِ يسوع وضربهِ على الرأسِ والبصقِ عليهِ وجَلدِهِ. كما وضعوا إكليلًا من الشوكِ على رأسهِ وسَخَروا مِنهُ قائلين: “هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ” (مت 27: 37).
بَقِيَ يسوعُ صامتًا ولم يُجِب بكلمةٍ واحدةٍ وهو مُعَلَّقٌ على الصليب. تنبأت نبوَّةُ إشعياء في الفصلِ الثالثِ والخمسين عن كلِ ذلكَ بوضوحٍ فتقولُ:
“مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ… ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ” (إش 53: 3، 7).
لم ينطِقْ الربُّ يسوع بأيِ كلمةٍ اعتراضًا على آلامهِ الجسديةِ ولا على الإهاناتِ التي تَعَرَّضَ لها أمامَ الجموع. وآلامٌ وإهاناتٌ كهذه يختَبِرُها بشرٌ آخرون. لكنَّ مَا عَبَّرَ عنهُ يسوعُ على الصليبِ لا يُمكنُ أن يُعَبِّر عنهُ سوى ابنُ الله الأزلي، وهو يختبرُ أقسى وأبشعَ الآلامِ النفسيةِ والفكريةِ.
“وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: «إِلُوِي، إِلُوِي، لَمَا شَبَقْتَنِي؟». اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟” (مر 15: 34).
قبلَ مئاتِ السنين، تنبأَ داودُ في المزمورِ الثاني والعشرين بهذه الكلمات عن المسيَّا الموعود. وعلى الصليبِ نطقَ بها يسوع موَجهًا إياها لمحضرِ الثالوث الأقدس، على مَسمعِ الجُموع، كَلِماتُهُ تلك تُعَبِّرُ عن أعمق الآلام الروحية. على الصليبِ تَقَبَّلَ يسوعُ أن يأخُذَ طوعًا مكانَ الخطاةِ التُعساء. على الصليبِ صارَ “حَمَلَ الله”، ليأخذَ على نفسهِ خطيةَ العالم.
النبيُ إشعياء كانَ قد عَبَّر عن حاجَتِنا الماسةِ لعملِ المُخَلِّصِ. يقول في الفصل التاسع والخمسين:
“هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَسْمَعَ” (إش 59: 1، 2).
على الصليب قَبِلَ يسوع أن يصيرَ خطيةً لأجلِنا. أخذَ على نفسهِ العقابَ المتوجَّبَ على خطيتِنا. ذلكَ تسببَ في انفصالٍ وانعزالٍ مؤقتين عن القداسةِ السماوية. وكان يسوعُ على علمٍ تامٍ بذلكَ ولم يكُنْ يتشكى أو يتأفأفَ بسببِ التعذيبِ الجسدي الذي ناَلهُ على يدِ البشرِ الأشرارِ، عندما قال: “إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟” صرخةُ يسوع هذهِ إنما أعلَنتْ عن حقيقةِ التبادُلِ الروحاني التاريخي على الصليب. أخذَ مكاننا لِيُعِدَّ لنا الإعتاقَ من عِبء وعقابِ خطيتِنا نحنُ البشرِ الأثَمَةِ. خطيتُنا التي حَرمَتنا وفَصَلَتنا عن القداسةِ الإلهيةِ صارت نَصِيبَهُ هو.
جاء يسوعُ ليُحققَ ذلك بالذات، فأجرةُ الخطيةِ هي الموت. ولم يكن مُمكنًا ليسوع وهو كاملُ العِصمةِ والقداسةِ أن يختبرَ الموتَ سوى بأخذهِ على نفسهِ عِبء خطيتِنا نحن. جاءَ ليموتَ موتَنا. وفعلَ ذلكَ طوعًا. الفصلُ العاشرُ من بشارةِ يوحنا الإنجيليةِ يُسجِّل لنا كلماتِ يسوع وهو يُخبِرُ مُسبقًا عن موتِهِ بالنيابةِ عنا، يقول:
“لِهَذَا يُحِبُّنِي الْآبُ، لِأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي” (يو 10: 17، 18).
نعم، اختارَ يسوعُ بنفسهِ طوعًا أن يأخذَ مكانَنا على الصليب ويختبرَ تلكَ العُزلةَ العنيفةَ من القداسةِ الإلهية. يقولُ الإنجيلُ:
“فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: «قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ” (يو 19: 30).
نعم، اكتملَ العملُ. لكن عناصرَ عِصمةِ وكمالِ ومجدِ يسوعِ الإلهية كانت واضحةً حتى عند موتِهِ عن الخُطاةِ على صليبِ العارِ. بشارةُ مَرقُس الإنجيليةِ توضِحُ ذلِكَ على فمِ العسكري الروماني:
“وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هَكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ: «حَقًّا كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ»” (مر 15: 39).
هذا هو الأساسُ القاطعُ الجازمُ لقيامةِ يسوع. نفسُ يسوعِ الكامِلَةِ الطُهرِ بقيتْ بلا دنَسٍ حتى على الصليبِ، عندما أخذ خطيتَنا على نفسِهِ. أعلنَ ذلك الرسولُ بُطرس في موعظتهِ التاريخيةِ التي أسستْ كنيسةَ العهدِ الجديد، إذ قالَ:
“اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ… سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ (داود) عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلَا رَأَى جَسَدُهُ فَسَادًا. فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذَلِكَ” (أع 2: 24، 31-32).
المسيحُ قام. بالحقيقةِ قام. لقد هُزمَ الموتُ! هللويا.
“إِلَهُ السَّلَامِ الَّذِي أَقَامَ مِنَ الْأَمْوَاتِ رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ، رَبَّنَا يَسُوعَ، بِدَمِ الْعَهْدِ الْأَبَدِيِّ، لِيُكَمِّلْكُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لِتَصْنَعُوا مَشِيئَتَهُ، عَامِلًا فِيكُمْ مَا يُرْضِي أَمَامَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ. آمِينَ”.