عقيدة الاختيار والإرسالية إلى أقصى الأرض – أ. مارك عبد المسيح
لا يوجد عقيدة يُساء فهمها وشرحها[1] وتطبيقها، خاصة من قِبَل معارضيها، أكثر من عقيدة الاختيار. واحدة من أكبر الاعتراضات على عقيدة الاختيار هو الادعاء أن الإيمان بها يؤدي بالضرورة إلى تعطيل الكرازة والإرسالية. بطريقة أخرى، يدَّعي معارضو عقيدة الاختيار أنه إن كان الله قد اختار الذين سيخلصون، فلماذا نكرز ونسعى لتوصيل الرسالة لغير المؤمنين، ففي النهاية سوف يأتي الله بمختاريه للإيمان والتوبة دون الحاجة لأدوات بشرية لتوصيل رسالة الإنجيل.
لكن هل هذه الادعاءات صحيحة؟ دعونا نفحص هنا باختصار الزعم بأن الإيمان بعقيدة الاختيار يقلل من الالتزام أو الاحتياج أو الحماس للكرازة والإرسالية عن طريق تقديم حجج كتابية وحجج أخرى تاريخية (أشجعك عزيزي القارئ على مراجعة الشواهد الكتابية لفحص ما يُقدَّم في هذا المقال كتابيًّا).
الحجج الكتابية
أولاً، أكد المسيح أنه لا يستطيع أحد أن يأتي إليه إن لم يجتذبه الآب (يوحنا ٦: ٤٤، ٦٥)، ولا أحد يعرف الآب إلا “مَنْ أَرَادَ ٱلِٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ” (متى ١١: ٢٧). كما أشار المسيح أن البعض لن يؤمنوا برسالته. وبينما أشار بعض المرات لمسؤوليتهم في عدم الإيمان وغلاظة قلوبهم، أشار في مرات أخرى أن سبب عدم إيمانهم هو أنهم ليسوا من خرافه (مختاريه) (يوحنا ١٠: ٢٦). في المقابل أكد المسيح أن خرافه وحدهم سيسمعون صوته ويخضعون له (يوحنا ١٠: ٢٧؛ متى ٢٢: ١٤؛ ٢٠: ١٦). كذلك، في صلاته الشفاعية الأخيرة لا نجد المسيح يُصلي “لكل العالم”، بل صلى بشكل خاص لأجل الذين أعاطاهم له الآب دون الباقين من العالم (يوحنا ١٧: ٩). لكن نفس هذا المسيح هو الذي قدَّم الدعوة للجميع لكي يأتوا ويؤمنوا بالإنجيل (مرقس ١: ١٥؛ متى ١١: ٢٨؛ يوحنا ٧: ٣٧-٣٨). وهو نفسه الذي أمر بالذهاب للعالم أجمع للكرازة بالإنجيل (متى ٢٨: ١٩-٢٠).
لم يكن وعي المسيح بسيادة الله في الخلاص عائقًا لتقديمه الرسالة للجميع. لذلك، فإيماننا بأن خراف المسيح وحدهم هم من سيسمعون صوته عندما يتم الوعظ برسالة الإنجيل، لا يجب أن يقودنا للتخاذل في طاعة دعوته للذهاب برسالة الإنجيل للجميع.
ثانيًا، وضع بولس الرسول، على مثال المسيح، أصحاحه الأهم بخصوص الإرسالية والكرازة (رومية ١٠)، بين أصحاحين يُعتبرا من أهم الأصحاحات التي تتحدث عن سلطان الله في الاختيار (رومية ٩، ١١). فبالنسبة لبولس لا يوجد تعارض عقائدي بين سيادة الله في الاختيار للخلاص ومسؤولية الإنسان في التجاوب مع رسالة الإنجيل.
ثالثًا، ليس فقط عقيدة بولس، بل ممارسته تؤكد أن سلطان الله في الخلاص (والتَأكُّد من وجود مختارين في مدينة معينة) لا يقود للتخاذل في الصلاة والكرازة، بل على العكس يُشجِّع عليهما. فسلطان الله يُعطي الكارز بالإنجيل اليقين التام أن الله لا يعرضُ الخلاص فقط على الناس، بل هو الضامن والقادر أن يُخلص شعبه من خطاياهم. عندما واجه بولس بعض المعارضة في إرساليته في كورنثوس، نقرأ في أعمال ١٨ أن المسيح ظهر له في رؤيا قائلاً “لَا تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلَا تَسْكُتْ، لِأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلَا يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لِأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ ٱلْمَدِينَةِ“. هذا التأكيد على وجود شعب لله (مختارين)، لم يقود بولس لا للتخاذل في الخدمة ولا للذهاب لمدينة أخرى. فلا نسمعه يقول: “سوف يأتي الرب بهذا الشعب، فما الحاجة لي هنا”، ولا قال: “سيخلص الرب شعبه في هذه المدينة بي أو بدوني، فدعني أذهب لمكان آخر”. بل على العكس، نقرأ أن رد فعل بولس: “فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ ٱللهِ” (الآية ١١). باختصار، سلطان الله شجع بولس على أداء دوره في الصلاة والكرازة. كان بولس على يقين تام أن الله، وإن كان لا يحتاج لأي جهود بشرية (أعمال ١٧: ٢٥)، قد عيَّنَ استخدامها لمجده.
باختصار، يؤكد الكتاب أن الله عيَّن المختارين، لكنه يؤكد أيضًا أنه عيَّن الطريقة التي سيأتي بها المختارون للخلاص: الصلاة والكرازة بالإنجيل (٢ تيموثاوس ٢: ١٥، ٤: ٥). لأجل هذا ثابر تلاميذ المسيح في خدمتهم “لِأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ، لِكَيْ يَحْصُلُوا هُمْ أَيْضًا عَلَى ٱلْخَلَاصِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، مَعَ مَجْدٍ أَبَدِيٍّ” (٢ تيموثاوس ٢: ١٠).
الحجج التاريخية
لا شك أن عقيدة الاختيار، مثل باقي العقائد، قد طبَّقها البعض على مدار التاريخ بشكل غير كتابي. على سبيل المثال، اتخذ الكلفانيين-المفرطين (hyper-Calvinists)[2] عقيدة الاختيار عذرًا لعدم استعدادهم لدفع ثمن التضحية لكي تصل رسالة الإنجيل للهالكين. لذلك، قاوم الكثير من المُصلحين تعليم الكلفانيين-المفرطين.[3]
على صعيد آخر، تاريخ الإرسالية المسيحية حافل بالأمثلة لأشخاص آمنوا بسلطان الله في الخلاص والاختيار، وفي نفس الوقت، على مثال بولس، أفنوا حياتهم لكي يصل الإنجيل لمن لم يسمعوا به (رومية ١٥: ٢٠). على سبيل المثال لا الحصر، آمن بتعليم سيادة الله في الخلاص كلًّا من: وليم كاري (١٧٦١-١٨٣٤)، المبشر الشهير بالهند والذي يعتبر أب لحركة الإرسالية الحديثة؛ جون إليوت (١٦٠٤- ١٦٩٠) وديفيد برينرد (١٧١٨-١٧٤٧)، اللذان أفنيا حياتهما لكي يصل الإنجيل لقبائل الهنود الحمر في أمريكا، واللذان قد حركت قصة حياتهما آلاف المسيحيين حول العالم لإفناء حياتهم في إرسالية الله. أضف إلى ذلك مرسلين ووعاظ كثيرين مثل: جورج وايتفيلد، جوناثان إدواردز، دافيد ليفنجستون، هنري مارتن، وصموئيل زويمر وأخرين –كلهم أمنوا بعقيدة الاختيار وبمسؤولية الكنيسة لأن تأخذ الإنجيل لأقصى الأرض.
ولأنه دائمًا ما يُقال عن جون كالفن إنه كان مولع بعقيدة الاختيار،[4] وإنه هو من بدأها ونشرها،[5] وإن إيمانه هذا جعله لا يهتم بالإرسالية، لذلك فسأختم بالحديث عن جهود جون كالفن في الإرسالية.[6] أسس كالفن أكاديمية جينيفا، التي بدأت عملها عام ١٥١٩. قام فيها بتدريب الكثير من الخدام على تفسير الكتاب المقدس، واللاهوت، والأخلاق المسيحية، والوعظ والتعليم. آنذاك، كان هناك اضطهاد لكل من يُعلِّم كلمة الله ويعظ بها في فرنسا، الأمر الذي ملأ جينيفا بالكثير من اللاجئين الفرنسيين. في بداية الخدمة بالأكاديمية، كان هناك ١٦٢ طالبًا معظمهم فرنسيين، وبعد ٦ سنوات تضاعف الرقم إلى عشرة أضعاف. بين عامي ١٥٥٥ و١٥٦٢ ميلاديًّا، أرسل كالفن ١٤٢ رجلًا لفرنسا، للكرازة ولتأسيس هيئات تُعَلِّم الكتاب المقدس وكنائس تعظ برسالة الإنجيل. كانت يد الله مع هؤلاء الرجال الراجعين لوطنهم برسالة الإنجيل ففتنوا الأراضي الفرنسية. كان تأثيرهم عظيمًا لدرجة أن جان ماكر، أحد الخُدَّام آنذاك، كتب لكالفن جواب يقول فيه: “إن النار قد اشتعلت في كل أنحاء المملكة وكل مياه البحر لن تستطيع أن تطفئ [حركة الإصلاح هذه]”.
وبالرغم من هذا الاضطهاد الشديد الذي واجهه هؤلاء المرسلين، استمروا في إعلان رسالة الإنجيل دون توقف. نمت الكنيسة المصلحة من خلال جهودهم في الوعظ والتعليم من ٥ كنائس مُصلحة عام ١٥٥٥ في كل فرنسا، إلى ١٠٠ كنيسة بحلول عام ١٥٥٩. والأعظم من ذلك، أنه في خلال ٣ سنوات أخرى، أي بحلول عام ١٥٦٢، ازدادت حركة الهوجونتس (مصلحي فرنسا) لتضم ٢١٥٠ كنيسة بسبب خدمة الـ١٤٢ مُرسَل الذين أرسلهم كالفن. أدى ذلك لارتفاع تعداد أعضاء الكنائس المصلحة في فرنسا لحوالي ٣ مليون (من مجموع ١٥ أو ١٦ مليون مواطن فرنسي!). وقد تراوح عدد الحاضرين في بعض هذه الكنائس بين ٦,٠٠٠ و٩,٠٠٠. شمل هذا العدد من المتحولين حوالي نصف الرجال الأغنياء في فرنسا، كما أن بعض الكهنة الكاثوليك[7] صاروا تابعين لحركة إصلاح (الهوجونتس) وصاروا مهتمين بإصلاح الكنيسة.[8]
سأل بيرثود، والذي كتب عن الإرسالية وقت كالفن: “كيف يمكن للواحد أن يعطي إجابة عن حقيقة كون الوعظ بالعقائد التي تبدو منهكة للبشر، مثل عقيدة الاختيار وعقيدة الفساد الكلي للبشر، والتي يعتبرها الكثير من الإنجيليين في أيامنا هذه كعقائد مضادة للتحفيز على الكرازة الفعالة، ولكن بالرغم من ذلك، أنتجت واحدة من أعظم النهضات الفائقة في تاريخ الكنيسة؟ إن الوعظ الذي كان في زمن الإصلاح لم ينتج عنه فقط تجديد عدد لا حصر له من الرجال والنساء، وتحوُّلهم لإيمان يطالبهم ببذل كل شيء في حياتهم، بل بالإضافة إلى ذلك، أنتج تجديد كُلِّي في الثقافة، والمجتمع، والعادات السياسية لكثير من القطاعات في الحضارة الأوربية، الأمر الذي لم نشهده منذ ذلك الزمن إلى الآن”.[9]
خاتمة
ألا تقودنا قراءة كلمة الله وقراءة التاريخ لاستنتاج عدم وجود أي معارضة بين الإيمان بسلطان الله في الاختيار والإيمان بمسؤوليتنا كمؤمنين للكرازة بالإنجيل؟ حقًّا، إن معرفتنا بإن الله سيخلص مختاريه يجب أن تشعل فينا الحماسة للمثابرة في الإرسالية والخدمة رغم كل الإحباطات، واثقين أن الله هو ضامن ثمار هذه الخدمة. وإن كان الله هو صاحب السيادة الأول في الخلاص، فأشرُّ الخطاة الذين نتقابل معهم ليسوا بعيدين عن منال النعمة. وكذلك، عندما نرى أي ثمر في خدمتنا وأي خلاص للنفوس من خلال وعظنا وتعليمنا سيكون لنا الثقة أن الله وحده فعلها، وآنذاك سيأخذ الله وحده كل المجد!
[1] كثيرًا ما يقع المعترضون على عقيدة الاختيار في مغالطة رجل القش. ومغالطة رجل القش هي نوع من أنواع المغالطات المنطقية غير الرسمية، وتكون عن طريق إعطاء الانطباع بدحض حجة الخصم، في حين أن ما تم دحضه هو حجة لم يقدمها الخصم. ويقال إن مستخدم المغالطة “يهاجم رجل القش”. بطريقة أخرى، هي تقديم الشخص (أ) صورة خاطئة عن معتقد الشخص (ب)، ودحض هذه الصورة الخاطئة بدلاً من دحض معتقد (ب) الفعلي.
[2]حذر الكثير من المصلحين على مر العصور من الكالفينية-المفرطة hyper-Calvinism والتي تنادى بسلطان الله في الاختيار والخلاص على حساب مسؤولية الإنسان في التوبة ومسؤولية المؤمنين/الكنيسة في أخذ رسالة الإنجيل للخطاة والصلاة لأجلهم.
[3] اقرأ كتاب The Whole Christ, for Sinclair Ferguson.
[4] وَضْع كالفن عقيدة الاختيار في نهاية حديثه عن عمل المسيح الفدائي (الفصل ٢١–٢٤ من كتابه الثالث) يُظهِر أنه لم يكن مولع بطريقة غير متزنة أو غير رعوية بعقيدة الاختيار.
[5] هذا خطأ تاريخي أيضًا. يكفي قراءة أوغسطينوس (٣٥٤–٤٣٠م)، جوتشاك (٨٠٤–٨٦٩م)، وتوماس برواردين (١٣٤٩م). انظر هذين المقالين: https://www.desiringgod.org/articles/calvinists-before-calvin
https://www.ligonier.org/learn/articles/gottschalk/
[6] سأذكر هنا جهوده في الإرسالية في فرنسا ولن أتطرق لجهوده في الإرسالية في البرازيل. كان كالفن قد أرسل الكثير من المرسلين للبرازيل والذين تم اضطهادهم حتى الموت في الوقت الذي كان كالفن فيه يرسل لهم الكثير من الجوابات الرعوية لتشجيعهم أن يكونوا أمناء حتى الموت.
[7] مثل Francois Lambert and Jean Chatellain.
[8] See, To the Ends of the Earth: Calvin’s Missional Vision and Legacy (May 31, 2014) by Michael A. G. Haykin, Jeff Robinson Sr. And, Encountering the History of Missions, John Mark Terry and Robert L. Gallagher.
[9] Berthoud, “Calvin and the Spread of the Gospel”, 2.