هل هناك درجات للخطية؟ – أ. مارك عبد المسيح

هل هناك درجات للخطية؟ – أ. مارك عبد المسيح

 

هل كل الخطايا أمام الله واحد؟ هل ينظر الله لكل الخطايا على أنها بنفس القبح وسيدينها كلها بنفس الدينونة؟

 

العقيدة الكاثوليكية:

لقد رفضت الكنائس المُصلحة التقسيم الذي قبلته الكنيسة الكاثوليكية بين “الخطايا العرضية” (venial sins) والخطايا المُميتة (mortal sins). فبحسب الفكر الكاثوليكي، “الخطايا العرضية” هي التي تُعيق الشركة مع الله، لكنها لا تقطع الشركة معه بالكامل ولا يستحق مرتكبها الهلاك في الجحيم. يجب على الإنسان الذي يرتكب هذا النوع من الخطايا أن يقوم ببعض الأعمال للتوبة وإلا سيُعاقب على هذه الخطايا في المطهر. لكن في الأغلب مثل تلك الخطايا لا تؤدي بالإنسان الذي اعتمد للجحيم.[1] أما “الخطايا المُميتة” فهي التي تقطع الشركة مع الله وتقود الإنسان للجحيم في حالة عدم التوبة عنها. وبحسب بعض الوثائق الكاثوليكية[2] تشمل الخطايا المميتة، “التجديف، الإجهاض، بعض درجات الكذب، الزنى، استخدام موانع الحمل، القتل، الهرطقة وغيرها…”. التوبة عن تلك الخطايا يجب أن يرفقها حزن شديد وتكون عادة عن طريق سرَّ الاعتراف ويتبعها حِلّ من الكاهن.

رفض الإصلاح للتقسيمة الكاثوليكية تمسكًا برسالة الإنجيل:

كان اعتراض المُصلحين على تلك التقسيمة مبنيًا على ما يعلنه الكتاب المقدس بوضوح عن قداسة الله الكاملة، كرهه للشرَّ وشبه الشَّر بكل اصنافه، ودينونته العادلة الأبدية للأشرار. نقرأ في كلمة الله، “لأَنَّكَ أَنْتَ لَسْتَ إِلهًا يُسَرُّ بِالشَّرِّ، لاَ يُسَاكِنُكَ الشِّرِّيرُ.” (مز ٥: ٤). كما يؤكد الله لنا أن “أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ (أي خطية وكل خطية) هِيَ مَوْتٌ” (رومية ٣: ٢٦). والموت المقصود هنا يشمل الهلاك الأبدي جزاءً لكل خطية. لذلك، ففي حين يعتبر البعض “الكذب” أو “الخوف من الناس بدلا من خوف الله” خطايا اصغر، بمعنى أنها لا تستوجب الجحيم مثل “القتل” أو “الزنا”، نقرأ في كلمة الله أن الكذَّابون والخائفون (الذين لن يتوبوا ويؤمنوا بالإنجيل) مثلهم مثل القتلة والزناة الذين لن يتوبوا مصيرهم الدينونة الأبدية: “وَأَمَّا ٱلْخَائِفُونَ وَغَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلرَّجِسُونَ وَٱلْقَاتِلُونَ وَٱلزُّنَاةُ وَٱلسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ ٱلْأَوْثَانِ وَجَمِيعُ ٱلْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي ٱلْبُحَيْرَةِ ٱلْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي” (رؤيا ٢١: ٨). كما أشار المسيح لكون الإنسان سيعطي حساب لله عن “كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ” بها (متى ١٢: ٣٦). وأكد أن النظر بشهوة هو أحد أنواع الزنى، والغضب الباطل والشتيمة هو أحد أنواع القتل، وهذه وتلك تستوجب الجحيم الأبدي (متى ٥: ٢١-٣٠).

بالإضافة لذلك، نرى عدَّة تأكيدات أن الله يدعو الإنسان للاهتمام بـ”كل” الوصايا دون التغاضي عن أحدهم (مزمور ١١٩: ١-٢، ٦، ٣٥؛ لوقا ١: ٦؛ يعقوب ٢: ١٠). كما أوصى المسيح تلاميذه في الإرسالية العظمى بتعليم الأمم “جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ” (متى ٢٨: ٢٠).

باختصار، كل خطية وأيَّ خطية أيًا كانت بالفكر وبالقول وبالفعل كافية لتجعل الإنسان نجسًا لا يستطيع التواجد في محضر الله القدوس ومستحقًا لدينونة الله العادلة. فإن كان آدم قد طُرد من محضر الله بسبب عصيان واحد لوصية واحدة، فلا يوجد مجال لإنسان خاطئ أن يتواجد في محضر الله القدوس. إن معرفة الإنسان بهذا المعيار من “الكمال الإلهي” و”الكمال المطلوب من الإنسان بحسب شريعة الله” ضروري جدًا للخلاص، إذ يقود الإنسان للبحث عن مُخلص يخلصه من خطاياه، ويمنحه هذا الكمال الذي يفتقره في ذاته. والخبر السار هو أن المسيح يسوع قادر على تطهير كل من يثق به من كل خطية ومن أي نوع من الخطايا (عبرانيين ٧: ٢٥- ٢٧؛ ١ تيموثاوس ١: ١٣-١٦)، وهو ايضًا يهب هذا الكمال لمن يفتقروه. فقد عاش المسيح بلا خطية لكي يُنجي الخطاة ويكون هو برهم وكمالهم (١ كورنثوس ١: ٣٠؛ ٢ كورنثوس ٥: ٢١).

لكن الكتاب المُقدس وعقيدة الإصلاح لا يلغيان درجات الخطية:

بالرغم من ذلك، يؤكد الكتاب المقدس في أكثر من موضع أن هناك وصايا أهم من وصايا، وهناك خطايا أقبح في نظر الله من خطايا أخرى، ولها نتائج أرضية أخطر ودينونة في الجحيم أعظم من خطايا أخرى. فنأخذ أمثلة كتابية وبعدها نتحدث عن الأهمية العملية لفهم هذا الموضوع.

 

أمثلة كتابية:

  • وصايا أهم من وصايا أخرى: يقول المسيح للفريسيين في متى ٢٣: ٢٣ “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ! لِأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ ٱلنَّعْنَعَ وَٱلشِّبِثَّ وَٱلْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ ٱلنَّامُوسِ: ٱلْحَقَّ وَٱلرَّحْمَةَ وَٱلْإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلَا تَتْرُكُوا تِلْكَ.” لم ينف المسيح أن الفريسيين كان عليهم الاتيان بالعشور لبيت الرب، ولم يشجعهم على تجاهل تلك الوصية، بل أكد “لَا تَتْرُكُوا (فعل) تِلْكَ”. لكنه أدانهم على تجاهل الوصايا الأثقل: “تَرَكْتُمْ أَثْقَلَ ٱلنَّامُوسِ“. وقد وضح أن الوصايا الأثقل تتمثل في: الالتزام في التعامل مع الآخرين بالعدل والحق، أي في إعطاء كل شخص ما يستحقه؛ وفي الرحمة أي مسامحة الآخرين على أخطائهم والشفقة بشكل عام في التعامل مع الخطاة؛ بالإضافة لضرورة السلوك في حياتهم بالإيمان، ولاسيما الإيمان بهوية وعمل المسيح كما أعلنها (متى ١٢: ٢٨؛ يوحنا ١٠: ٣٩). نجد نفس هذا المبدأ في هوشع ٦: ٦ ومتى ٩: ١٣؛ ١٢: ٣.

  • الوصايا العشر: بالرغم من أن كل خطية مُرتكبة في حق الله بشكل مباشر (مزمور ٥١: ٤)، يتفق الكثير من اللاهوتيين المُصلحين على كون كسر الوصايا الأربعة الأولى من الوصايا العشر، والتي تخص الله بشكل مباشر، أشرَّ من كسر الوصايا الستة التالية التي تخص علاقة الإنسان بالإنسان (أنظر، ١ صموئيل ٢: ٢٥). وبالطبع أحد مظاهر سقوط بشريتنا هو أننا عندما نتحدث عن موضوع “الخطية” ونشرع في إعطاء أمثلة لها، دائما ما يخطر في أذهاننا أنها كسر الوصايا الستة الأخيرة، مثل لا تزني ولا تقتل، أكثر من كونها كسر للوصايا الأربعة الأولى، مثل لا يكن لك آلهة أخرى أمامي أو لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً!

  • خطايا أقبح من خطايا: في مشهد محاكمة المسيح، نقرأ قوله لبيلاطس “لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ ٱلْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ ٱلَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ” (يوحنا ١٩: ١١). لم ينف المسيح كون بيلاطس قد أخطأ. كما نجد التأكيد على بشاعة خطية بيلاطس، الذي أحب مركزه أكثر من الحق، في مواضع أخرى في كلمة الله (أعمال ٤: ٢٧). لكن المسيح أكدَّ أن يهوذا الإسخريوطي له خطية أعظم من خطية بيلاطس. ولعل السبب هو المعرفة الأعمق التي كانت عند يهوذا الإسخريوطي، بشخص المسيح وعمله، من تلك التي كانت عند بيلاطس. فيهوذا قد عاشر المسيح عن قرب، سمع وعظه، رأي معجزاته، بل وكرز وصنع معجزات باسمه (متى ١٠: ١، ٤؛ ٧: ٢١-٢٣). لذلك، يؤكد المسيح أن خطية يهوذا أعظم!
  • خطايا عقوبتها أعظم من خطايا: استكمالاً للمبدأ السابق الخاص بدرجة الخطية المترتبة على مقدار المعرفة، أوضح المسيح في مثل الوكيل الأمين أن “ٱلْعَبْدُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. ٤٨ وَلَكِنَّ ٱلَّذِي لَا يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلًا. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ.” (لوقا ١٢: ٤٧-٤٨). فهنا نجد المبدأ صريحًا: الخطية عن معرفة دينونتها أعظم من الخطية عن جهل. كلاهما يستحق العقاب، لكن الواحدة دينونتها أكثر من الأخرى.

  • الخدام والمعلمين في الكنيسة لهم دينونة أعظم لأنهم يحملون اسم المسيح: كانت خطية موسى في البرية تبدو صغيرة، إذ ضرب الصخرة في لحظة غضب لتخرج ماء بدلاً من أن يكلمها كما اوصاه الرب. لكن كانت تلك الخطية الصغيرة كافية لمنع الرب موسى من الدخول إلى أرض الموعد (عدد ٢٠: ١-١٣). خطأ الكبير في المنصب حقًا كبير في عواقبه! لذا يحدثنا يعقوب في رسالته، “لَا تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!” (٣: ١). ويُشير المسيح لفكرة مشابهة في قوله، “فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.” (مت ٥: ١٩). هنا الحديث ليس عن خلاص وهلاك، لكن عن الحالة التي سيكون فيها أبناء الله في ملكوت السماوات. فحتى أبناء الله المُخلصين بالنعمة وحدها، سوف يعطون حساب عن أسلوب حياتهم، توافق حياتهم مع تعليمهم بما فيه “الوصايا الصغرى”!

  • دينونة غير المؤمنين في جماعة العهد الجديد أعظم من دينونة غير المؤمنين في جماعة العهد القديم: صنع الله عهدًا مع بني إسرائيل. لكن لم يكن كل الأفراد داخل جماعة العهد القديم مؤمنين حقيقين. كذلك، في العهد الجديد تُمثل الكنيسة جماعة العهد، لكن ليس كل من ولد في بيت مسيحي وليس كل من يحضر الكنيسة اليوم (جماعة العهد الجديد) مؤمنًا حقيقًا. بحسب مبدأ لوقا ١٢: ٤٧-٤٨، كل من ولد في جماعة العهد القديم أو الجديد له امتيازات أعظم (مثل سماع كلمة الله باستمرار)، لكن لهم أيضًا دينونة أعظم في حالة عدم الإيمان. وتؤكد كلمة الله أيضًا أن الدينونة على أبناء العهد الجديد الغير مؤمنين أعظم من الدينونة على أبناء العهد القديم غير المؤمنين: فمن عرفوا حقيقة عمل المسيح، قوة دمه، ومجد النعمة ثم رفضوا المسيح لهم “عقابًا أشَّر“، لأن كان لهم اعلان أكثر وضوحًا. هذا ما نقرأه في عبرانيين ١٠: ٢٨ “مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. ٢٩ فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ٱبْنَ ٱللهِ، وَحَسِبَ دَمَ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَٱزْدَرَى بِرُوحِ ٱلنِّعْمَةِ؟”

  • خطايا نتائجها أكثر تدميرًا من خطايا أخرى: يقول بولس، “اُهْرُبُوا مِنَ ٱلزِّنَا. كُلُّ خَطِيَّةٍ يَفْعَلُهَا ٱلْإِنْسَانُ هِيَ خَارِجَةٌ عَنِ ٱلْجَسَدِ، لَكِنَّ ٱلَّذِي يَزْنِي يُخْطِئُ إِلَى جَسَدِهِ” (١ كور ٦: ١٨). أختلف المفسرون حول المقصود من الجزء الثاني من هذا العدد. لكن كثيرون اتفقوا أن بولس يؤكد أن خطية الزنى تُهين الجسد بشكل خاص أكثر من أي خطية أخرى. فالسرقة تنجس اليد، والكذب ينجس اللسان، أمَّا الزنا فينجس الجسد بأكمله إذ يشمل انخراط الجسد بأكمله في فعل الخطية (كالفن). لذلك، يعظ بولس المؤمنين المتحدين بالمسيح جسدًا وروحًا (ع. ١٥)، والذين صاروا هيكل للروح (ع. ١٩) بعدم المساومة ولا التهاون مع الزنا بل الهروب السريع متمثلين بيوسف الذي هرب من الزنى (تكوين ٣٩).

  • ليست كل الخطايا تؤدي للتأديب الكنسي العلني: لقد تحدث بولس الرسول عن خطايا كثيرة بين الكنائس التي أسسها (رومية ١-٢؛ ١ كورنثوس ٦: ٩-١١؛ غلاطية ٥: ٢٠-٢١). ودعي المؤمنين للتعامل مع كل أنواع الخطية بحزم وتوبة حقيقية (٢ كورنثوس ٧). كما أكدَّ أن الاستمرار في أسلوب حياة يتسم بأي نوع من أنواع الخطية سيؤدى للهلاك الأبدي (أفسس ٥: ٣-٥). وأكد أن الله يستطيع تغيير أشَّر المنخرطين في أي نوع من تلك الخطايا. لكن مع كل هذا، لم يطالب بولس الرسول الكنيسة بالقيام بالتأديب الكنسي لكل أنواع الخطايا التي ذكرها. فلا نراه يطالب الكنيسة بتأديب شخص اشتهى بعينه ما لغيره، ولا نراه يطالب بتأديب شخص قام بالنميمة، أو تحدث بكبرياء، لكننا نراه يطالب بتأديب الشخص الذي زنى (٢ كورنثوس ٥). فحتى في وسط الكنيسة يطالبنا الله بالتعامل مع بعض الخطايا بشكل مختلف.

  • خطية للموت (١ يوحنا ٥: ١٦-١٧): يقول الرسول يوحنا “١٦ إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ، يَطْلُبُ، فَيُعْطِيَهُ حَيَاةً لِلَّذِينَ يُخْطِئُونَ لَيْسَ لِلْمَوْتِ. تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ. لَيْسَ لِأَجْلِ هَذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ. ١٧ كُلُّ إِثْمٍ هُوَ خَطِيَّةٌ، وَتُوجَدُ خَطِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ.”[3] بالطبع هذا العدد ايضًا صعب. يؤكد جون ستوت أن مُستمعي يوحنا الأوائل كانوا مُلمين بتعبير “خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ” و”خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ”. وبعد ان اعطى عدَّة احتمالات للمعنى، أكد بحكمة أن المعنى الأكثر اتفاقًا مع السياق هو أن “الخَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ” هي إشارة لمن يقاومون عمل الروح القدس ويستمرون مُعلمين تعاليم تنفى تجسد المسيح واهمية عمله الكفاري، هؤلاء هم المسحاء الكذبة الذين تحدث يوحنا عنهم كثيرًا (١ يوحنا ٤: ١-٦). هؤلاء لم يكونوا مؤمنين من الأساس (٢: ١٩)، لأن المؤمنين بحسب ١ يوحنا لن يستمروا في حياة الخطية (٣: ٩؛ ٥: ١٨).

بحسب هذا التفسير: (١) يستخدم يوحنا كلمة “أخاه” لا للإشارة للأخوة في المسيح، لكن بمعنى أوسع مثلما يستخدم الوحي “تحب قريبك (كل إنسان) كنفسك”.[4] (٢) الأخ الذي يُخطأ ليس للموت هو “ليس مؤمن” لأن يوحنا يقول إن هذا الأخ يحتاج أن يُعطى حياة روحية، وبالنسبة ليوحنا (كما لبولس في أفسس ٢: ١-١٠) تعبير يُعطى حياة مرتبط بانتقال الشخص من حالة الموت الروحي للحياة الروحية. (٣) التركيز في عدم الطلب لأجل من أخطأ للموت ليس بالضرورة لمنع التشفع لأجل ذلك الشخص بل للشك في التأثير الإيجابي لهذا التشفع.

  • التجديف على الروح القدس خطية لن تُغفر: عندما أتهم بعض الفريسين المسيح انه يصنع معجزاته بروح الشيطان قال لهم: “٢٨ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ ٱلْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي ٱلْبَشَرِ، وَٱلتَّجَادِيفَ ٱلَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. ٢٩ وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى ٱلْأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً». ٣٠ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحًا نَجِسًا».” (مرقس ٣: ٢٨-٣٠). تحمل هذه الأعداد أخبارًا سارة: أن كل أنواع الخطايا التي ارتكبتها يُمكن أن تُغتفر بالكامل. لكن هناك تأكيد أن التجديف على الروح القدس خطية لن تُغفر. الرأي الأشهر بين المفسرين هو أن التجديف على الروح القدس هو المقاومة المستمرة تبكيت الروح على الخطية والمقاومة المستمرة (حتى الموت) إعلان الروح القدس للإنسان عن احتياجه ليسوع المسيح كمخلص وربٌّ. دون إلغاء هذا التفسير، علينا ألا نفسر هذا العدد خارج السياق (لاحظ أهمية ع. ٣٠): التجديف على الروح القدس في سياق الأناجيل دائمًا مرتبط برؤية معجزات المسيح والاشارة لكونه المسيح يعملها بروح شيطانية.[5] في كل الأحوال، هنا مثال أخر لخطية أعظم بل ولا تُغتفر.

  • مثال داود: في قصة زنى داود المذكورة في ٢ صموئيل ١١ نرى داود يتدرج في إعطاء نفسه للخطية. مرة أخرى، كل درجة من الخطية هي “خطية تُغضب الله وتستحق الموت”، لكن كل درجة من انخراط داود في الخطية كانت أقبح مما قبلها. في البداية، نرى داود في وقت انتصارات حربية كثيرة (٢ صموئيل ١٠) يتكاسل عن الخروج للحرب (٢ صموئيل ١١: ١) (فخطايا الإغفال (مثل، الكسل عن دراسة الكلمة والصلاة) دائما ما تسبق خطايا الارتكاب الأكثر وضوحًا أمام أعيننا). بعد ذلك، رأي داود بشبع واشتهاها في قلبه ولم يتوب فورًا، بل استمر تاركًا الشهوة تأخذ مكانًا أكبر في قلبه وإرادته (ع. ٢). ثم بعد ذلك تطورت الشهوة إلى زنى فعلي (ع. ٣-٤). ولكي يخفي خطية الزنى، استمر في إعطاء نفسه بإرادة ووعي لخطية أخرى بتسببه في قتل أوريا زوج بشبع (ع. ٦-٢٧). أدب الله داود تأديبًا قاسيًا شمل لا داود فقط بل كل اسرته. في هذا المثال نرى أنه كلما تركت الخطية كلما زادت سيادتها كلما زاد قبحها أمام الله وزادت نتائجها الوخيمة.

 

عمليًا، ما الذي يُهمنا من معرفة أنه هناك درجات من الخطية؟

أولاً، يقول أر. سي. سبرول أنه واجه في خدمته الرعوية شخصًا سأله، “إن كان المسيح أكد أنني عندما انظر لامرأة واشتهيها فقد زنيت بها في قلبي، فإن كنت في كل الأحوال قد زنيت عندما اشتهيت بعيوني، فلماذا لا اذهب وازني بالفعل بجسدي؟” لا يُمكن الإجابة على مثل هذا التساؤل دون توضيح المبادئ الكتابية التي تؤكد أن هناك خطايا أقبح في نظر الله، ولها نتائج أبشع هنا على الأرض وفي الأبدية.

ثانيًا، كما أن معرفة “أن كل خطية أجرتها الموت” تُجعلنا نكره الخطية بكل صنوفها، فمعرفتها أن هناك “خطايا أقبح من خطايا” تجعلنا نصلى طالبين معونة الرب ألا نسقط في خطايا تُهين اسم الرب بشكل علني أمام الأمم، وتقطعنا من الشركة مع كنيسته.

ثالثًا، هذا الفهم يساعدنا على إدراك عدالة الله، فالله لن يعاقب في الجحيم شخص قتل الملايين كهتلر مثل شخص عاش في غضب مستمر لكنه لم يقتل أي شخص. نعم كلاهما لن يخلص دون المسيح، لكن كلاهما لن يُعاقب بنفس الطريقة لشرورهما. كذلك، الله عادل وسيجازي المؤمنين والخدام دون محاباة: “وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ،” (1 بط 1: 17).

 

تطرف خاطئ في التطبيق:

أريد أن اختم بتحذير وتشجيع. يُمكنك بسهولة بعد دراسة هذا الموضوع أن تسقط في أحد التطرفين. التطرف الأول، هو الروح الفريسية التي نقرأ عنها في مثل العشار والفريسي (لوقا ١٨: ٩-١٤) ونراها ايضًا في الابن الأكبر (لوقا ١٥: ٢٥-٣٢). وهو أن يكون لسان حالك: “أنا خاطئ، لكن أشكرك يا الله أنني لست مثل هذا الشخص الذي ارتكب واحدة من الخطايا البشعة عن معرفة، ولا مثل هذا الخادم الذي يُعلم الناس ولا يعيش ما يعلمه. أشكرك لأني لست بهذا القبح!” إذا كان هذا توجهك، فأنت لم تفهم بعد كم أنت خاطئ، لم تفهم قداسة الله وكره لأصغر خطية، ولم تستوعب بعد احتياجك للمسيح ولرسالة الإنجيل! التطرف الثاني، هو أن تشعر أنك أخطأت ببشاعة وعن معرفة كثيرة وربما وانت خادم وتيأس من نفسك وتشعر أنه لا رجاء لك الآن. إن كانت هذه هي حالتك، فأنت أيضًا تحتاج لفهم رسالة الإنجيل التي تؤكد “إِنَّ جَمِيعَ ٱلْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي ٱلْبَشَرِ”! تذكر، المسيح يعرف كل خطاياك ويدعوك لتجد البرَّ والاسترداد فيه وحده.

لذلك، أيًا كانت حالتك، لا يسعنا عند الحديث عن “درجات الخطايا” إلا الرجوع مرة أخرى لأساسيات رسالة الإنجيل: لحقيقة كون كل كسر للوصية كبير او صغير يضعنا تحت لعنة: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لَا يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ» (غلاطية ٣: ١٠)؛ ولحقيقة كون هذه اللعنة لا يُمكن أن تُرفع من علينا بمحاولة ارتكاب خطايا أقل، ولا بمحاولة عمل بعض الأعمال الحسنة التي تمحوا أعمال الظلمة التي ارتكبناها. فهذه اللعنة والدينونة لا يُمكن أن تُرفع إلا من خلال المسيح يسوع الذي عاش بلا خطية لكي يرفع خطايانا، والذي ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلاطية ٣: ١٣). شكرًا لله أن هذا المسيح يدعونا كل يوم ويعدنا أنه “إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ” (إشعياء ١: ١٨).

[1] 1862 “One commits venial sin when, in a less serious matter, he does not observe the standard prescribed by the moral law, or when he disobeys the moral law in a grave matter, but without full knowledge or without complete consent.” Catechism of the Catholic Church (2nd ed.). Libreria Editrice Vaticana. 2019. Paragraph 1862.

[2] Catechism of the Catholic Church (2nd ed.). Libreria Editrice Vaticana. 2019.

[3] يشرح ستوت، “قَبِلَ كل من كليمندس الإسكندري أوريجانوس أنه يمكن رسم حدود بين الخطايا التي تغتفر والخطايا التي لا تغتفر، لكنهما رفضا تصنيفها. ذهب ترتليان إلى مرحلة أبعد من ذلك وذكر الخطايا الكبيرة (بما في ذلك القتل والزنا والتجديف وعبادة الأوثان) وقال إنها لا يُمكن أن تُغتفر، في حين أن المخالفات البسيطة يمكن أن تغفر.” كانت هذه بذار ما يُسمى بالسبع خطايا المُميتة في الكنيسة الكاثوليكية، ولكن هذا كله يختلف عن المفهوم الذي يُقدمه الكاتب هنا. ولعل هذا الانحراف في التعليم هو ما أدى إلى رفض الكثير من الإنجيليين اليوم للاعتراف بوجود درجات في الخطية بالمفهوم الكتابي الذي يُقدم هنا.  Stott, J. R. W. (1988). The Letters of John: An Introduction and Commentary (Vol. 19, p. 187).

[4] البعض يرى كلمة “أخاه” ترتبط في هذا العدد على الذي “يخطأ خطية ليست للموت” وليس على الذي “يخطأ خطية للموت”.

[5] رعويًا: إن اتاك شخص (أو إن كنت انت شخصيًا) تخشى أن تكون قد جدفت على الروح القدس، فأنت لم تجدف على الروح لأن من جدف بالفعل على الروح لن ينتابه خوف أو تبكيت مثل هذا البتة بل سيكون متصلف متكبر غير معترف بأي خطية ولا حتى معترف بحاجته للاعتراف.