قدومُ النسلِ الموعودِ – القس فيكتور عطا الله

قدومُ النسلِ الموعودِ – القس فيكتور عطا الله

تَحَدَّثَ الروح القدس عن طريقِ الرسول بولس في الفصل الرابع من الرسالة إلى أهل غلاطية عن ميلاد الرب يسوع فقال:

وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللهُ ٱبْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ“. (غلاطية 4: 4، 5)

هذا التصريحُ يُوجزُ لنا ليس فقط مضمونَ الوحي الإلهي عبرَ صفحات الكتاب المقدَّس، بل أيضًا وجهةَ التاريخ البشري، فهو يُشيرُ لمطلعِ الوحي في الكتاب المقدَّس حيث الحديث عن نسلِ المرأة، وفي نفس الوقت يَتَحَدَّث عن وجهةِ التاريخ البشري. ثم هو أيضًا يُوَضِّحُ القصدَ أو الهدفَ الإلهي بمجيء ابن الإنسان لعالمِنا البشري ألا وهو “التَّبَنِّيَ“.

ذِكرُ قدومِ يسوع كالنسل الموعود في بداية الكتاب المقدَّس أمرٌ عجيب لأنه وَرَدَ في وعيدٍ إلهيٍ صارمٍ للشيطانِ بالذات. ذلك الوعيدُ رَبَطَ بين العداوةِ التي تأسَّست بين المرأةِ بالذات وبين إبليس. هذا ما نقرأهُ في العدد الخامس عشر من الفصل الثالث في كتاب التكوين التوراتي، وقد جاء في قرينةِ إذعان أبوينا الأوليْن لتجربةِ عدو الخير وسقوطهما في مُستنقعِ التشكيكِ في كلمة ونوايا الخالق القدُّوس والتمرُّدِ على وصيتِهِ الحكيمة. قال الربُ لإبليس المُتجسِّد في الحيَّة الماكرة:

وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. (تكوين 3: 15)

أبعادُ العداوةِ بين نسليِّ الشيطان والمرأةِ ثلاثيةٌ، فهي روحيةٌ وأخلاقيةٌ وقانونيةٌ. معركةٌ روحيةٌ بدأت بالفعل في مطلعِ التاريخ البشري بين إبليس ونسله من جهةٍ والمرأة ونسلها من الجهة الأخرى. واضحٌ أن أُمُّنا حواء وثقت، هذه المرة، بكلامِ الربِّ ووعدِهِ، لكنَّ شأنها كشأن الكثيرين لم تفهم ما قَصَدَهُ الرب ب “نسلِ المرأةِ“. الفصلُ الرابع من التكوين يُفيدُ بأن حواء اعتقدت بحماسةٍ ومسرةٍ، أن النسلَ الموعودَ للانتقام من الحيَّةِ هو ابنها البِكرُ قايين:

قالت: “ٱقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ“. (تكوين 4: 1)

بالطبعِ لا هي ولا آدم ولا مئات أجيال البشر بعدهما فهموا تمامًا المعنى المقصود بنسلِ المرأةِ. الاعتقادُ المُعتادُ كان بنسلٍ إنسانيٍّ، مولودٍ من امرأة، وهو بالطبعِ نَتَاجُ جماعِها مع رجلها. والواقعُ أنه لم يأتِ ذِكرٌ في سجلات الكتاب المقدَّس أكثرَ وضوحًا للأمر لقرونٍ عديدة، وذلك عندما جاءَ التلميحُ عن وليد العذراء المُعجزيّ، في الفصل السابع من نبوة إشعياء:

ثُمَّ عَادَ ٱلرَّبُّ فَكَلَّمَ آحَازَ قَائِلًا: «اُطْلُبْ لِنَفْسِكَ آيَةً مِنَ ٱلرَّبِّ إِلَهِكَ. عَمِّقْ طَلَبَكَ أَوْ رَفِّعْهُ إِلَى فَوْقٍ». فَقَالَ آحَازُ: «لَا أَطْلُبُ وَلَا أُجَرِّبُ ٱلرَّبَّ». فَقَالَ: «ٱسْمَعُوا يَا بَيْتَ دَاوُدَ! هَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُضْجِرُوا ٱلنَّاسَ حَتَّى تُضْجِرُوا إِلَهِي أَيْضًا؟ وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْنًا وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ». زُبْدًا وَعَسَلًا يَأْكُلُ مَتَى عَرَفَ أَنْ يَرْفُضَ ٱلشَّرَّ وَيَخْتَارَ ٱلْخَيْرَ. لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ ٱلصَّبِيُّ أَنْ يَرْفُضَ ٱلشَّرَّ وَيَخْتَارَ ٱلْخَيْرَ، تُخْلَى ٱلْأَرْضُ ٱلَّتِي أَنْتَ خَاشٍ مِنْ مَلِكَيْهَا»“. (إشعياء 7: 10- 16)

ومع ذلك فإن المفهوم العام لجماعة الإيمان الحقيقية في كل فترة العهد القديم، قبلَ وبعدَ إبراهيم مَثَّلَهُ إيمانُ إبراهيم الواثق عن نسلٍ معجزيٍّ موعود يأتي عن طريقِ أحشاءِهِ هو بالذات، ويتكاثرُ بشكلٍ يَصعُبُ تِعدَادُهُ:

فَإِذَا كَلَامُ ٱلرَّبِّ إِلَيْهِ قَائِلًا: «لَا يَرِثُكَ هَذَا، بَلِ ٱلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ هُوَ يَرِثُكَ». ثُمَّ أَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجٍ وَقَالَ: «ٱنْظُرْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَعُدَّ ٱلنُّجُومَ إِنِ ٱسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا». وَقَالَ لَهُ: «هَكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». فَآمَنَ بِٱلرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا. (تكوين 15: 4-6)

والواقعُ إنهُ في تلك القرينة بالذات كان على أبرام أن يُدركُ أمريْن مهميْن. الأولُ والأهم هو أن الذبيحةَ الضامنةَ للعهد بين أبرام وبين الرب، هي الذبيحة المُكَلَّفَةُ للربِّ بالذات. فالربُّ هو الذي شَقَّ الطريقَ في وسطِ الحيوانات المذبوحة. أما الأمرُ الثاني فكان بالإشارةِ للخطوةِ الهامةِ والضروريةِ التي لعبتَ دورًا مركزيًّا في تحقيقِ وعد الرب لأبرام بالأرضِ والأمةِ، تلك الخطوةُ تطلَّبت أربعمائة سنة من التكاثرِ والذُلِّ والعبوديةِ في أرض مصر.

كان على أبرام نفسه أن يُدركَ أن البركةَ التي تتبعُ دعوتَهُ لا تتمُّ أثناءَ فترةِ حياته الأرضية. كان عليه أن ينتظرَ بشوقٍ النسل السماوي الموعود، كما وَضَّحَ الربُ يسوع بنفسه:

أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ“.  (يوحنا 8: 56)

لكن علينا أن نتذكرَ أن الدعوةَ الإلهية لأبرام في أساسها لها هدفٌ أبعدَ جدًّا من نسلِ إبراهيم الجسدي، لأن الربَّ إذ وعدهُ بالبركةِ والأرضِ والأمةِ العظيمة، أكدَ له منذ البدايةِ بأن النتيجة المقصودة هي البركة لكل البشرية. قال الربُ له:

تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. (تكوين 12: 3)

ذلك كان بيت القصيد الإلهي من الدعوةِ الإبراهيمية، فالبركةُ الزمنيةُ والأرضُ والأمةُ كان لها جميعًا هدفٌ أوسعَ جدًّا من مجردِ بركة نسلٍ جسديٍّ واحدٍ قادمٍ عن طريقِ ابنه إسحق.

دعونا نُلاحظُ هنا أن التأكيد الذي حصل عليه أبرام بنسلٍ من أحشاءِهِ في الفصلِ السابع عشر من كتاب التكوين شَمِلَ أمريْن في غاية الأهمية. الأمر الأول هو القرار الإلهي بتغيير اسمه من “أبرام” الذي عنى أبًا لأمةٍ واحدةٍ، ليصير إبراهيم، الذي عنى أبًا لجمعٍ غفيرٍ من الأمم. هذا تجانسَ تمامًا مع الهدفِ ببركةِ جميع قبائل الأرض. والأمر الثاني له علاقةٌ بالطبيعةِ الأبديةِ للعهدِ الإلهي والمُلك الموعودِ لإبراهيم، فالأرضُ والأمةُ والنسلُ الجسدي هي وسائلَ السماء لِمُلكٍ أبدي تحت رئاسةِ نسلٍ روحيٍّ معصومٍ من رحمِ عذراء.

هذا يأتي بنا من جديد لنسل العذراء في العهد الجديد. هناك سجلانِ للتسلسلِ البشري الذي وُجِّهَ لقدومِ النسل، سجلٌّ في مطلعِ الفصل الأول من بشارةِ متى وسجلٌّ آخر في نهاية الفصل الثالث من بشارةِ لوقا. سجلُّ بشارة لوقا يُعَرِّف يسوع على أنه كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي (خطيب العذراء مريم). يتقدَّمُ هذا السجل تاريخيًّا إلى الوراء حتى أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ.

أما سجلُّ بشارة متى فيتقدَّمُ تاريخيًّا إلى الأمام لكنه يبدأ فقط من الخط الإبراهيمي، ويسردُ ثلاثة قوائمَ، كُلُّ قائمةٍ منها تشمل أربعة عشرة جيلًا، منقسمةٍ لثلاثة أحقاب، كلها تُؤكِّدُ على الأساس الإبراهيمي لنسلِ يسوع الجسدي. حقبة الأربعة عشرة جيلًا الأولى تقودُ التناسلَ من إبراهيم إلى داود (أي حقبة تأسيس الأمة والمملكة) والثانية من داود إلى السبي البابلي (حقبة بداية ونهاية المملكة الأرضية). أما الحقبة الثالثة فتشمل التحضيرَ الإلهي لولادةِ النسل الموعود.

هنا يجب أن نضع نَصب أعيننا ثلاث حقائق مهمة. الأولى هي الخاصة بالتأكيدِ بهوية يسوع الجسدية الإبراهيمية. فالتسلسل التناسلي عبر اثنين وثلاثين جيلًا لا يضع مجالًا للشك في أن يسوع هو نسلُ إبراهيم الموعود. والحقيقةُ الثانية تُؤكِّدُ على أن قدومَ يسوع من الخط الإبراهيمي لم يكن عبرانيًّا خالصًا، فكانت ضِمنَهُ ثلاثُ نسوةٍ أجنبيات لعبت كُلُّ منهن دورًا هامًا، الأولى كانت كنعانية قد مارست الزنا قبل توبتها وإيمانها، اسمُها راحاب. والثانية كانت موآبية اسمها راعوث، والثالثة كانت أم سليمان، بثشبع، التي كانت زوجة أوريا الحثي.

أما الحقيقة الثالثة فتتعلَّق بميراث يسوع الملكي عبر خط الملك داود وابنه سليمان. هذه الحقائق الثلاث دلَّلت على الطبيعة الروحية وغير العِرقية لقدومِ النسلِ الموعود.

تتضحُ الصورةُ في العهد الجديد بشكلٍ جلي في تعليم الرسل عن طبيعة الإيمان الإبراهيمي. وفي العودةِ لرسالة غلاطية رفض الرسول بولس عقيدةَ تهويدِ المؤمنين من أصلٍ غير يهودي.

كما أن هويّة وليد العذراء كانت مُعلَنَة بوضوح – اسمه “عمانوئيل” – ممَّا أكد على أنه يُمثلُ الوجودَ الإلهي بين البشر:

وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ. (إشعياء 7: 14)

ونبوةُ إشعياء توسَّعت في تعريفِهِ في الفصل التاسع على إنه الابن الأبدي (إشعياء 9: 6، 7).

أثبتت واقعةُ الطوفان قُدرة الشيطان المتواصلة لخداعِ جنسنا البشري وإقناعِ نسل آدم بالتمرُّدِ على الرب ورفض وصاياه واستحقاقَ كل نسل آدم لعقاب الموت.

أما استبقاءُ الثمانية أنفس وهُم نوح وزوجته وأولاده الثلاثة وزوجاتهم وكذلك ظهورُ قوس القزح فهي دلَّلت على عدم تخلِّي الرب عن مخلوقِهِ البشري الخاص ومواصلةِ مُخطَّطه الخلاصي في نسلِ المرأةِ الموعود لهزيمة الشيطان.

أمَّا واقعة برج بابل فأكَّدت على تفشِّي الشر في نسلِ آدم إلى درجةٍ كانت ستقود البشر للقضاءِ على أنفسهم بأنفسهم. والتدخُّل الإلهي ببلبلةِ لسان البشرية وتشتيتها دلَّل على طولِ أناةِ ورحمة الرب.

هنا تكمنُ أهمية سجل أنساب يسوع الذي تقدَّم بشكلٍ تراجعي نحو أبينا الأول آدم. فحتى واقعتيِّ الطوفان وبرج بابل تواصل الوجود البشري إلى أن جاءت الدعوة الإبراهيمية. هنا بالذات ارتكز المُخطَّط الإلهي على الدعوة الإبراهيمية لقدوم النسل الموعود.

لكن يجب أن نُلاحظ وصولَ خط نسل البركةِ الموعود إلى وِجهتِهِ النهائيةِ السعيدةِ بميلادِ وليد العذراء. فلم يعد هناك ذِكرٌ من أجيالٍ للخط الإبراهيمي عن طريقِ إسحق ويعقوب ويهوذا وداود.