لماذا الحروبُ؟ – القس فيكتور عطا الله
إخوتي وأخواتي في المسيح، الفصلُ الرابعُ من رسالةِ يعقوبِ الإنجيلية يتحدثُ عن أسبابِ “الحروبِ والنزاعات”.
“مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ. 2تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ. 3تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ 4أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ للهِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا للهِ” (يع4: 1-4).
وجودُ الخلافاتِ والخصوماتِ بين الأفرادِ والجماعاتِ وحتى بين الدول واضحٌ عبرَ صفحاتِ التاريخ. وكثيرًا ما تكون النتائجُ عنفًا وضررًا شديدين. والواقعُ أن الصراعاتِ تحدثُ أيضًا بين الأممِ وتقودُ لحروبٍ مُدَمِرَةٍ.
نصُنا الإنجيلي يبدأُ بالسؤال: “1مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟” (يع4: 1). السؤالُ مُوَّجَهٌ لأُناسٍ واضح أنهم اختبروا خلافاتٍ بينهم، شأنُهُم شأنُ باقي البشر. ومع أن يعقوبَ هنا لم يكُنْ يفتكرْ في صراعاتٍ عسكرية، لكِنَ ما يقولهُ ينطبقُ على طبيعةِ كلِ الصراعاتِ البشرية، بما في ذلك، على الحروبِ بين الأمم. وهو يُتابعُ بسؤالٍ آخر، يُشيرُ لحربٍ داخليةٍ فينا جميعًا عما نرغبُ به ونريدهُ. يدعو ذلك لَذَّاتَكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ. ثم يُضيف: “2تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ. 3تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ” (يع4: 2، 3).
اللغةُ المستعملةُ هنا هي عن رغبةٍ شديدةٍ واشتهاءٍ عميقٍ للحصولِ على ما هو ليس في مُتَنَاوَل أيدينا. يتحدَّثُ يعقوبُ عن العنفِ الذي يتولدُ عن الطمعِ والأنانيةِ البشرية.
يُمكننا هنا أن نفتكرَ بلصوصٍ يُصِرُّونَ على الحصولِ على ما هو للآخرين، وهُم على استعداد لاستخدامِ الحيلةِ والقوةِ للحصولِ عليها. هذا يحدثُ كثيرًا. بل إن بعضِ اللصوصِ يكونونَ على استعداد للقتلِ لتحقيقِ ما يبتغون.
لكن الأمرَ لا يقتصرُ على سرقةِ المالِ والمجوهرات والسيارات، وكلِ ما هو ذاتَ قيمةٍ مادية. ما يتحدَّث عنه يعقوب هو أبعدُ كثيرًا عن ذلك، وللبشرِ خلافاـتٌ أيديولوجية وسياسيةٌ شديدةٌ، وحتى مُشجعي الأنديةِ الرياضيةِ المتنافسة قد تتطورُ خلافاتُهُم لعنفٍ جسديٍ مُخيف. أما الخلافاتُ الإثنيةُ والعِرقيةُ والاجتماعيةُ فهي تلعبُ أيضًا دورًا مهمًا في العنفِ بين البشر. ومن المُحزِنِ أنه في مراحلَ مختلفةٍ من التاريخِ تَسَبَّبَ التعصب الديني في الكثيرِ من الخلافاتِ بل الحروب بين البشر.
حتى في أيامنا هذه نجدُ مَنْ يرغبونَ في فرضِ قناعاتِهم الأيديولوجيةِ والسياسيةِ والعِرقيةِ والاجتماعيةِ والدينيةِ وحتى ميولَهم الجنسيةَ غيرَ المُعتادةِ على الآخرين. فيعقوب لا يتحدَّثُ عن الخلافاتِ البسيطةِ الهادئةِ المُسالمةِ بين البشر. إنه يتحدَّثُ عن مشاعرَ عميقةٍ تُعَبِّرُ عن نفسِها بشكلٍ يُعَنِّفُ الآخرين. هذا ما يحدثُ كثيرًا عندما يختلفُ أعضاءُ الأسرةِ الواحدةِ على أنصبَتِهِم في المواريث. ويحدثُ أيضًا عندما لا يتفقُ الجيرانُ على وضعِ حدودٍ لأراضيهِم أو بُيوتِهم. كما يحدثُ أيضًا بين الأزواجِ والزوجات عندما يفشلوا في تقديرِ مشاعرِ واحتياجاتِ الطرفِ الآخر. كُلُ طرفٍ يُصِرُّ على حقِه ويتَنَكَرُ لحقِ الآخر. وللأسفِ الشديد فإن ذلك يحدُثُ في هذه الأيام، ويقودُ لانشقاقاتٍ حتى داخلَ بيوتِ المؤمنين، ويتسببُ في آلامٍ كثيرةٍ للأطفالِ ويؤثرُ سلبًا على الأجيالِ القادمة.
الخلافُ بين الموظفينَ أو العمالِ ومُوَظِفِيهم حولَ ظروفِ وأجورِ العمل، يقودُ كثيرًا للاضطراباتِ وتعطيلِ الاقتصاد. الخلافاتُ حولَ الممتلكاتِ الماديّةِ تقودُ لصراعاتٍ مُكَّلِفةٍ وطويلةِ الأمّد في المحاكم. هذا ينطبقُ أيضًا على حالاتِ الطلاق. هذه الصراعاتُ تقودُ أيضًا لعداواتٍ بين الأصدقاءِ والجيرانِ وحتى بين أعضاءِ العائلةِ الواحدة. من جهةٍ أخرى، عندما تحدثُ الخلافاتُ والصراعاتُ بين مجموعاتٍ أكبر من الناس تكونُ الخسائِرُ أكثرَ فداحةً. الشدائدُ العِرقيةُ والقَبَلية كثيرًا ما تقودُ لمعاركَ تسببُ ضحايا بشريةٍ في مناطقَ كثيرةِ من عَالَمِنَا. وكُلُنا نُتابعُ يوميًّا ما يحدثُ لقطاعاتٍ كثيرةٍ من السكان وهُم يواجهونَ نتائجَ الاضطراباتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ في بلادِهم. كلُ مجموعةٍ تشعرُ بأنَها مُستَغَلَّةٌ أو أنها تُعَامَلُ بعدمِ إنصافٍ. لكن بعضَ المجموعاتِ تُعطي نفسها الحقَ بقهرِ الأخرينَ وظُلمِهِم.
عبرَ صفحاتِ التاريخِ يلعبُ الدينُ والتدينُ أدوارًا مهمةً في الصراعاتِ بين البشر. البعضُ يُعطي نَفسَهُ الحقَ في فرضِ عقائدِهِ وشرائعِهِ على الآخرين. في الواقع أننا نرى مرةً تُلو الأخرى مجتمعاتٍ وقرىً ومدنًا، بل حتى أممًا وهي تتحطمُ بسبب الصراعاتِ الدينية. الآلاف يفقدونَ حياتَهم، بل ملايين يفقدونَ بيوتَهم ومعيشَتَهُم ويُصبحونَ بلا مأوى ولا حماية. في بعض الحالات تُقتَلُ أسرٌ كاملةٌ وتُدَمَرُ كلُ مجتمعاتِهم لسببٍ وحيدٍ ألا وهو انتمائُهم لدينٍ مُختلفٍ أو لقبيلةٍ أخرى.
وللأسفِ الشديد نُلاحظُ أيضًا أن حتى المُضطَهِدينَ والظالمينَ للآخرين هُم أنفُسُهم يُخدَعون من قِبَلِ قادَتِهِم الذين يستخدمونَهم للاحتفاظِ بالسُلطةِ أو المزايا أو الحصولِ على مزيدٍ منها. كما أن قادةَ بعض الأممِ يخدعونَ شعوبَهم بإقناعِهم بالحاجةِ للخوضِ في حروبٍ ضدَ أممٍ أخرى. وكثيرًا ما تكونُ مبرراتُ القهرِ والتمييز العنصري والاستغلالِ والحروب مبنيّةً على أُسسٍ مُخادعةٍ ووعودٍ باطلةٍ بتحسينِ أوضاعِ الشعوب. كُلُ تلك مبنيّةٌ على الرغبةِ في التسَلُطِ على الآخرين وقهرهم والاستحواذ على مُقَدَراتهم وثرواتهم.
إخوتي وأخواتي في المسيح، نصُنا يُشيرُ بوضوحٍ لجذورِ المشاكلِ والصراعاتِ البشرية. إنها أنانيةُ وجشعُ طبيعتِنا البشرية. إنها عن محبةِ الذات لا وبل عن عشقِ وعبادةِ الذات. إنها العبادةُ الوثنيةُ في أبشعِ صيَغِها. ونصُنا الإنجيلي يُشيرُ للطبيعةِ اللاعقلانيةِ واللامنطقية لسلوكِ البشر. الواقع أنَه لا توجدُ مكاسبَ باقيةٍ لأنانيةِ البشر الظالمين. الصراعاتُ والحروبُ لم تُنتجْ أبدًا حياةً أفضلَ حتى للظالمينَ المُنتصرينَ على الضُعَفاء. نصُنا الإنجيلي يؤكدُ أنهم يتحاربونَ مع أنفسِهِم فيقول:
“أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ” (يع4: 1). هناك دائمًا تبكيتٌ وعدمُ شبعٍ داخلي. نصُنا الإنجيلي يقول إنها محبةُ العالم. والتعبير “العالم” في الإنجيل يُمَثِّلُ الجهلَ بالحقِ والعداءَ له. محبةُ العالمِ في مفهومِ الإنجيلِ هي التسليمُ لفسادِ المشاعرِ والفكر وإتباعِ روح الشر ِفي المجتمع والعالم المحيطين بنا. روحُ الشر هذا يسعى لجذبنا ولإغوائنا لتَقبُلِ ما يطرحنا علينا من فسادٍ فكري وأخلاقي وحتى ديني ، وينمي فينا محبةَ الذات والطمع، بل والسعي خلف المراكز والسلطة والجاه. كلُ هذه تُمَثِلُ رفضَ الصلاح الإلهي والتَمَرُدَ على روحِ الوصيةِ، وصيةَ المحبةِ الواهبةِ للنفس للرب وللبشر من حولنا.
هكذا أوجز الرب يسوع روحي الشريعة “تُحِب الربَ الهَك” من كُلِ كيانِكَ و”قريبَكَ كنفسك” (مت 22: 34-40). وهذا تمامًا ما مارَسه الرب يسوعُ، كآدمِ الجديد.
عندما سألَه بيلاطُس إن كان هو ملكًا على اليهود أجابه قائلًا: “مملكتي ليست من هذا العالم”. شَدَّدَ المسيحُ بشكلٍ مُتَكَرِرٍ على طبيعَتِهِ السماويةِ القُدوسةِ التي تُناقضُ روحَ العالمِ تلك. قال أنه: “28لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (مت20: 28).
نعم، هو دَفَعَ بنفسِهِ ثمنَ خلاصِنا، فهو ينقُلُنا من ظلمةِ وموتِ طبيعتِنا الفاسدة. وأتباعُ يسوعِ الحقيقيونَ ليسوا بأتباعِ ديانةٍ بشريةٍ فاسدةٍ ومُفسِدَةٍ، مُتصادقةٍ مع روحِ العالمِ الشرير. بل هُم قد صِيغوا على صورةٍ بشريةٍ جديدةٍ التي أسسها بمحبتهِ التي وَهَبَ بها نفسَهُ حتى لأعدائه غيرِ المستحقين.
لهُ كلُ المجدِ.