الدينُ والمال
بَعضُ رِجالِ الدينِ يَتسمونَ بِالثراءِ وحياةِ الرخاء. وهُناكَ تساؤلاتٌ مُنصِفةٌ حَولَ ثَرواتِهِم ومسالِكهِم. مِمَّن وكيفَ يَجمَعونَ ثرواتِهم؟ ما هو سَببُ نَجاحِهِم في تَراكُمِ ثرواتِهِم؟ لِماذا يَبقونَ على شُهرَتِهِم ونَجاحاتِهِم؟ بَعضُهُم يَتَمتَّعُ بتبعيةِ جماهيرٍ غَفيرةٍ، خاصةً بينَ الفُقراءِ والبُسَطاء. والأمرُ لا يَقتصرُ على بِلادِ الغرب. عددٌ مِمَّن يَدَّعونَ مواهِبَ فوقَ طبيعيَّةٍ ويَجمَعونَ الملايينَ هُم أفارِقة يَستحوذونَ على موارِدَ الفُقراءِ الذينَ يَتمكَّنونَ مِن غسلِ أدمِغتهِم. والواقِعُ أن هذِه الظاهِرةَ ليسَتْ حِكرًا على ديانةٍ مُعيَّنةٍ.
في أيامِ المَسيحِ الأرضيَّةِ، تَمتَّعَ هَيكلُ القُدس بِأهميَّةٍ عَظيمةٍ كَمكانٍ لِلتَعليمِ والصلاةِ والعبادة. ذَلك كان القَصدَ مِن وجودِ الهَيكلِ الذي رَمَزَ لِحضورِ الرب بين جماعةِ الإيمان. فَقد شَكَّلَ مَركزًا لِلأنشطةِ الدينيَّةِ كَتقديمِ ذَبائحَ رَمزيَّةٍ من الحيوانات، والتقدِماتِ الأُخرى، كما أُقيمت في الهيكلِ بعضُ المراسِمِ الدينيَّةِ كالخِتانِ والاحتفالاتِ السنويَّة. كما كانَ الهَيكلُ مَقرًّا قضائيًّا اجتَمعَت فيهِ مَحكَمةُ اليَهود العليا المَدعوة بـ “السنهدريم”، تلك المحكمة التي اختَصَّت بِأمورِ المُعتَقدات والفَتاوى الدينيَّة اليَهوديَّة، على مَرِّ السنين. لكن تَحتَ إشرافِ القيادةِ الدينيَّة تَحَوَّلَ الهَيكَلُ لمقرٍّ للمشاوراتِ السياسيَّةِ السِريَّةِ المُعارِضةِ لِلسُلطاتِ الرومانيَّةِ المُحتَلَّة. كما أن باحةَ الهَيكل استُخدِمت لأنشطةٍ تُجاريَّةٍ ولتبادُلِ العُملات. القياداتُ الدينيَّة تَمكَّنت من الحصولِ على أموالٍ كَثيرةٍ من تِلكَ الأنشطة.
قامَ يَسوعُ بزيارةِ الهَيكَلِ من وَقتٍ لآخر ليُمارسَ التعليمَ. وكانت لهُ لِقاءاتٌ مع القياداتِ الدينيَّةِ وغَيرهم. الفصل الحادي والعِشرون مِن بِشارةِ متى الإنجيليَّة يُسَجِّلُ لنا شيئًا عن أحدِ زياراتِه لِلهَيكَل. يقولُ السِجل الإنجيلي:
“وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!»”. (متى ٢١: ١٢، ١٣)
إنَّ شُعور يسوع العَميق بحاجةِ البشرِ للصِدقِ والعدل واضِحٌ جدًّا. هذا انعَكسَ في واقِعةِ تَطهيرِهِ للهَيكَلِ. سَمحَ رِجالُ الدينِ لتُجَّارِ الحيواناتِ والطيور وتبديلِ العُملات بأن يَستَغِلوا المؤمنينَ البُسطاء. الآلافُ ذَهبوا للقُدسِ وهُم يَسعونَ بإخلاصٍ لإتمامِ ما اعتقدوا أنهُ واجِباتٌ دينيَّة. احتاجوا لشراءِ الطيور والحيوانات الأُخرى لِكي يُقدِّموها كَذبائِحَ في الهَيكَل. البعضُ جاءوا مِن مسافاتٍ بَعيدةٍ لِكي يَفوا بِمطالِبِ الشَريعة، المُختصَّةِ بِالفُقراءِ، والتي احتاجت لِذبيحةٍ بسيطةٍ من يمامتينِ أو حمامتينِ. وقد كانَ عَليهِم أن يُغيِّروا عُملاتِهِم الرومانيَّة لـ “الشِيِكِل”، شيكل الهَيكَل اليَهودي، لِكي يَفوا أيضًا بفاتورةِ وجودِهِم وإتمامِهِم لواجباتِهم الدينيَّة. كما أنَّ كثيرين مِن الحُجَّاج القادِمينَ مِن الخارِج احتاجوا لِشراءِ المأكولاتِ والمشروباتِ واضطروا لِدَفعِ أثمانٍ عاليةٍ لِلحُصولِ عَليها.
تَطَلَّبت سُلطاتُ الهيكلِ الدينيةِ أيضًا رسومًا وضرائِبَ مِن التُجَّارِ وعُملاءِ العُملةِ على أرباحِهِم. كُلُّ ذلِك شَكَّلَ عِبئًا ماليًّا ثَقيلًا على الحُجَّاج الفُقراء. غَضَبُ يَسوع على ما رآهُ كانَ مُبرَّرًا لِلغاية. عَلينا أن نَتَذكَّرَ أنَّ اهتِمامَهُ الرئيسي كانَ عن إفسادِ العِبادة واستغلال تَدَيُّنِ البسطاء. بَنَى يَسوع ما قامَ بِه على أسُسِ ما تَضَمَّنتهُ سِجلَّاتُ الوَحيِ الإلَهي. فَهو مثلًا ذَكَّرَ مُستَمعيهِ بِما وَرَدَ في الفَصلِ السادِسِ والخَمسين مِن نُبوَّةِ إشعياء قائلًا: “بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ” (إشعياء ٥٦: ٧).
كما أنهُ اقتَبَسَ مِن الفَصلِ السابِع من نبوَّةِ إرميا التي تَقولُ: “هَلْ صَارَ هذَا الْبَيْتُ الَّذِي دُعِيَ بِاسْمِي عَلَيْهِ مَغَارَةَ لُصُوصٍ فِي أَعْيُنِكُمْ؟ هأَنَذَا أَيْضًا قَدْ رَأَيْتُ، يَقُولُ الرَّبُّ” (إرميا ٧: ١١). ثُم أنَّ يسوع “قَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ” (متى ٢١: ١٢).
غَضَبُ يَسوع لم يَكُنْ مَبنيًّا على بِرٍّ دينيٍ ذاتي أو على مَنفَعةٍ شَخصيَّة. كما أنَّهُ لم يَكُن يسعى لإرضاءِ الجماهير أو إظهارِ قُدرَتهِ أو سُلطَتهِ الدينيَّةِ الشَخصيَّة. في مُناسبةٍ مُماثلة نَقرأُ في الفصلِ الثاني مِن بشارةِ يوحنا الإنجيليَّةِ أنَّ تلاميذَهُ أدركوا وتَذَكَّروا أنهُ بِفِعلتهِ تِلك حَقَّقَ ما ذُكِرَ عنه في المَزمور التاسِعِ والستين، ذَلِك المِزمورُ الذي وَصَفَ بدقَّةٍ دَوافعَ يَسوعِ النَقيَّةِ فَيقول: “لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ” (مزمور ٦٩: ٩).
الطَريفُ في الأمرِ أن قَرينةَ نبوَّةَ المزمورِ التاسِعِ والستين أشارت لِطَبيعة يَسوع الواهِبةِ لِلنَفسِ في خِدمتهِ وفي أسلوبِ حَياتِه. بعضُ ما عَمِله يسوع أزعَجَ حتى تلاميذَهُ، لأنَهُم كانوا يَخشونَ إثارةَ غَضَبِ المؤسَّسةِ الدينيَّة، التي شَعَرت بتهديدِهِ لمزاياهُم وسُلطتهِم على المؤمنينَ البُسطاء. والنصُّ الإنجيلي يُواصلُ ليؤكِّدَ لنا غَضبَ رؤساءَ الكَهنةِ والكَتبةِ اليهودِ لِما قامَ بِهِ يسوع بَعد ذَلِك من شِفاءٍ لِلمَرضى واهتمامٍ بِالفُقراءِ. يَقولُ النصُّ الإنجيلي:
“وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ، وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ!»، غَضِبُوا. وَقَالُوا لَهُ: «أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هؤُلاَءِ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحًا؟»”. (متى ٢١: ١٤-١٦)
كُلُّ ذَلكَ ارتَبطَ بمحبةِ المالِ التي تُعمي كثيرين. الرَسولُ بولُس إذ يَكتبُ لِتلميذهِ تيموثاوِس يَصِفُ ذلك قائلًا: “لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ”. كما أن الفَصلَ الخامِسَ مِن كتابِ الجامِعةِ يقول: “مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْل”.
أرادَ أحدُهُم أن يَتبعَ يسوع متوقِّعًا أن ذلِك يأتي لهُ ببعضِ الفَوائد. أمَّا يسوع فأجابهُ قائلًا: “لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ” (لوقا ٩: ٥٨).
مُدهشٌ جدًا ذلك الواقِعْ. فَيسوع لم يَمتلِك شيئًا وهو يَهبُ نَفسهُ في خِدمةِ مُضنيةِ عَبَّرَت عَن مِحبَّتهِ المُضحيةِ والواهِبةِ لِلنفسِ.