هل يسوع هو يهوه؟

هل يسوع هو يهوه؟

ماذا يقول الكتابُ المقدَّس عن هويَّةِ وطبيعةِ يسوع؟ البعض يتسبَّبون في إزعاج، بل زعزعة إيمان البُسطاء عن هذا الأمرِ الحيوي.

قضى يسوع أربعين يومًا بين قيامته وصعوده وهو يفتحُ أذهانَ رُسُلُهِ ليفهموا العهد القديم. علَّمهم أن كلَّ مضامين العهدِ القديمِ تُوَجِّهُ قُرَّائَها وفاهميها لشخصهِ، لأنه هو محورُها جميعها. وخاتمة الوحي في كتابِ الرؤيا تستَخدِمُ تعابيرًا ورموزًا وكناياتٍ واستعاراتٍ ورؤى من العهدِ القديم. ويبدأُ بالتأكيدِ على أنَه “إعلانُ يسوعِ المسيح“. أمَّا يسوعُ فَيُعَرِّفُ نفسَهُ أنَّهُ “الكائنُ والذي كان والذي يأتي” (رؤيا 1: 8).

ويضيف قائلا: “«أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ». يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ”(الآية 8). ويُتختَمُ كِتابُ الرؤيا بحديث يسوع عن نفسِه. فيقولُ: “أنَا الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ” (رؤيا 22: 13). فتعريفُ يسوعٍ عن نفسِه واضِحٌ: “أنا هو”.

هذا التعبيرُ كانَ معروفًا ومفهومًا للرسولِ يوحنا وللكنائس الأولى. وهو يُعَبِّرُ عن مضمونِ ومعنى الاسمِ العبري المُقتَبس “يهوه“. ذلك هو اسمٌ مُفتاحيٌّ للتعريفِ عن الله في العهد القديم. “يهوه” يعني “الربَّ“، وقد ورد لأولِ مرةٍ في مطلعِ الكتابِ المُقدَّسِ في  الفصلِ الثاني من كتابِ التكوينِ التوراتي، فيقول: “هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ، يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الإِلهُ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ” (تكوين 2: 4).

 في كتابِ الخروجِ التوراتي، نقرأ: “فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ»” (3: 14). كشفَ الله عن اسمه لموسى أنه “أهيه الذي أهيه”. وهذا التعبيرُ يعني “الكائنَ الذي هو كائنٌ”. هذه التسميةُ تُشيرُ لوجودِ وكينونةِ الرب. هو موجودٌ بذاتِه ومُكتفٍ في ذاتِه. لا بداية ولا نهاية ولا علةَ لوجوده.

مهمٌّ جدًّا أن نلاحظَ أنَّه عبرَ صفحاتِ العهدِ القديمِ، الاسمُ “يهوه”، الذي يعني “الرب”، يُستَخدَمُ بشكلٍ مُرادِفٍ للاسم “إلوهيم”، الذي يعني الله. يتحدَّثُ يهوه عن نفسه كثيرًا قائلًا: “أنا هو“. أنا هو كذا أو كذا. وفي أحيانٍ كثيرةٍ يقولُ: “أنا هو الربُّ إلهُ إبراهيمِ وإسحقِ ويعقوب”.

استخدامُ التعبيرِ “أنا هو” في العهدِ القديم يُشيرُ دائمًا للكيانِ الإلهي. إنَّهُ يتحدَّثُ عن إلهِ إسرائيل، بالمُقارنةِ مع الآلهةِ الزائفة التي تعبُدُها الأممُ الأخرى. التعبيرُ “أنا هو” يُشيرُ لتفرُّدِ الربِّ بأنه الإلهُ الوحيدُ، الخالقُ المُقتَدِرُ، كُلِّي المعرفةِ والحكمةِ، المدبرُ لكلِّ شؤونِ الخليقةِ المنظورةِ وغيرِ المنظورة. هو وحده الذي يستحقُّ العبادةَ.

ومع أنه غير منظورٍ ولا يمكُنُ الاقترابَ منه، إلَّا أنه يُعلِن عن نفسِه في خليقَتِه وأنشطةِ عنايَتِه. هو موجودٌ دائمًا مع شعبِه لتوجيههِم والاعتناءِ بهِم كإلهِ خلاصِهِم. ومع أنَّه كُلِّيُّ القداسةِ فهو يوفِّرُ وسائلَ معرفَتِه للمؤمنين لكي يطلبوا بركَتَهُ وحمايَتَهُ ويتَلَذَّذوا بالشركةِ معه.

عبر صفحات العهدِ الجديد، يواجهنا المسيحُ بنفسِ مضمونِ تعبيرِ اللِه عن نَفسِهِ، الذي كشَفَه بنَفسِه لعبدِه موسى في التوراة؛ “أنا هو الكائنُ الذي هو كائنٌ”. أنا هو… أنا هو… أنا هو…

في رؤيا يوحنا اللاهوتي، يتكرَّرُ القولُ بأن يسوعَ هو الكائنُ والذي كان والذي يأتي، وهذا يشيرُ لطبيعةِ وجودهِ الأُلوهيَّةِ. كذلك تبدأُ بشارةُ يوحنا بالإعلانِ أن يسوعَ هو “اللوجوس” أو “الكلمة”، إنَّهُ دائم الوجودِ.

فهو، كاللوجوس أو الكلمةِ، يُمَثِّلُ رغبةَ الربِّ في الكشفِ عن نَفسِه. وهو لم يكُنْ ليس فقط الخالقَ بل أيضًا مصدرَ الحياةِ والنورِ للعالمِ المخلوق.

بشارةُ يوحنا تبدأُ بالكلمات:

“في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ”.

يوحنا يواصلُ موضِّحًا أن الكلمةَ أو اللوجوس تجَسَّدَ في طبيعةٍ بشريَّة، أي إنه أضافَ لطبيِعتهِ الإلهيَّةِ طبيعةً بشريَّةً. تقولُ البشارةُ: “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا… وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعًا أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ الشريعةَ بِمُوسَى أُعْطِيَت، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا. اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ”.

اللوجوس هنا هو عن الشخصِ الوحيدِ الذي يُعلنُ ماهيَّةَ الله للبشرِ بشكلٍ منظور. عبرَ كلِّ بشارةِ يوحنا يُمَثِّلُ اللوجوس الشخصَ الوحيدَ للتقرُّبِ من الله ويُعَرِّفَنا مَن هو. الروحُ القدسُ أوحى ليوحنا لكي يعرِّف بالمعنى الحقيقي لإعلان الرب عن نفسه في هيئة بشريَّة. لكنَّ يسوعَ يُشيرُ دائمًا إلى نفسِه بالقولِ “أنا هو“. سبعُ مراتٍ في بشارةِ يوحنا يقولُ عن نفسِه “أنا هو”، كلُّ واحدة من تلك المرات السبعْ، ترتبطُ بالحياة نفسِها وباعتمادِ الوجودِ البشري على اللوجوس أو الكلمةِ الإلهي المتجسِّد.

يقولُ يسوع “أنا هو خبزُ الحياةِ“، ممَّا يعني أنه هو الغذاءُ الذي تعتمدُ عليهِ حياةُ البشرِ.

يقولُ يسوع “أنا هو نورُ العالمِ“، أي إنه هو الذي يُفَعِّلُ ويوجِّهُ الحياةَ.

يقولُ يسوع “أنا هو البابُ“، أي إنه هو الذي يوفِّرُ وسيلةِ ومدخلَ الشركةِ مع الله.

يقولُ يسوع “أنا هو الراعي الصالحِ“، أي إنه هو الذي يَهَبُ نَفسَهُ لرعايةِ وحمايةِ البشرِ.

يقولُ يسوع “أنا هو القيامةُ والحياةُ“، أي إنه هو الذي يَهَبُ النُصرَةَ على الموتِ.

يقولُ يسوع “أنا هو الطريقُ والحقُّ والحياةُ“، أي إنه هو الذي يهبُ الطريقَ الحقَّ للحياة.

يقولُ يسوع “أنا هو الكرمةُ الحقيقيَّةُ“، أي إنه هو الذي يوفِّرُ العلاقةَ الباقيةَ مع الله.

الاسمُ يهوه الذي يعني “أنا هو”، في العهدِ القديم، يُفيدُنا بالوجودِ والكيانِ الإلهي. يهوه، أي الربُّ، هو الحياةُ بذاتِها. هو خالقُ الحياةِ ومصدرها. وهو وحدُهُ الحيُّ الباقي.

في كتابِ الرؤيا، يسوعُ هو الكائنُ والذي كانَ والذي يأتي، أي إنَه هو المتمتِّعُ بالوجودِ الأزلي الأبدي.

يسوعُ هو اللوجوس، الكلمةُ المتجسِّدُ، فهو الذي يكشفُ لنا عن الربِّ الإله. هو الكائنُ، الذي كانَ والذي يأتي. هو هو أمسًا وهو اليومَ وهو إلى الأبدِ.

في الفصلِ الثاني عشر من بشارةِ يوحنا نلاحظُ أن اليهودَ رفضوا الإيمانَ بيسوع بالرغمِ من مُعاينَتَهِم لكمٍّ عظيم من المعجزات. وقد لاحظ يوحنا أن عدمَ إيمانِهم تمَّمَ ما تنبَّأ عنه نبيُّ اللهِ إشعياء، عن قساوة قلوبهم وغلاظة عقولهم. يقول يوحنا في الفصلِ الثاني عَشَر: “قَالَ إِشَعْيَاءُ هذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ” (12: 41).

هذا يشيرُ إلى رؤية إشعياء السماويَّة في الفصلِ السادسِ من نُبُوَّتِهِ وقد رأي السيرافيمَ وهم واقفين في الهيكلِ قائلين: “قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ”. هكذا إذن أكَّد يوحنا على أن يهوه، ربَّ المجد، الذي رآه إشعياء، هو يسوع بالذات.

استنتاجُنا بسيطٌ وواضحٌ: يسوعُ هو الكائنُ والذي كانَ والذي يأتي، هو الإلهُ المُقتَدرُ كُلِّيُّ القدَاسَةِ.

احتفظَ يسوعُ في طبيعتِه البشريَّةِ بالمجدِ والكرامَةِ والقدرة، لأنه الأقنومَ الثاني المباركَ في الثالوثِ الأقدَسِ. هو الألفُ والياءُ، البدايةُ والنهايةُ، الأولُ والآخِرُ. حتى في العهدِ القديم، هو اللجوس، الكلمةُ الذي تحدَّثَ لموسى وقال: “أنه هو”.

في كتابِ الخروجِ التوراتي، هو الذي ظهرَ لموسى قبلَ ذلك كملاكِ الربِّ الطاهر، تمامًا كما ظهر ليوحنا في كتابِ الرؤيا كالملاكِ القوي النازلِ من السماء. وإذ يُعرِّفُ عن نفسِه بالتعبير “أنا هو”، إنما جهَّز موسى لتحريرِ شعِبه من مِصر. وعلى نفس النسق ظهرَ يسوع ليوحنا كالملاكِ القوي. يقولُ يوحنا: “ثمَّ رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ قَوِيًّا نَازِلاً مِنَ السَّمَاءِ، مُتَسَرْبِلاً بِسَحَابَةٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ قَوْسُ قُزَحَ، وَوَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَرِجْلاَهُ كَعَمُودَيْ نَارٍ”.

يسوع هو “أنا هو، العظيمُ القدُّوسُ. هو الكائنُ والذي كان والذي يـأتي، القادرُ على كلِّ شيءٍ.

وهو، مع الآب والروح القدس، يهوه. كالقدُّوسِ الراكبِ الفرسِ الأبيضِ، نزلَ من السماءِ “غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ”. هو الأمينُ الصادقُ، الذي يقضي بالعدلِ وينتصرُ في معركَتهِ الروحيَّةِ بقداستِهِ المُطلقةِ. قداسَتُهُ تلك مَكَّنَتهُ من دحرِ الخطيَّةِ والشيطانِ والعالمِ، وتأمينِ الحياة الأبديَّةِ لكلِّ مَنْ يلتصقونَ به.