سُلطة مَن: الكتاب المُقدَّس أم الكنيسة؟
خاضت الكنيسة صراعات حول مواضيع مختلفة، في حقب متعددة من التاريخ. في القرون الأولى من تأسيسها، كان صراعها حول عقيدة الثالوث وشخص يسوع المسيح. في زمن القديس أوغسطينوس (354-430)، كان صراعها حول طبيعة الإنسان وماهية الخطية. في زمن القديس أنسلم (1033-1109)، كان الصراع حول طبيعة فداء المسيح. أما في زمن الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر، فقد كان الصراع حول السُلطة، سُلطة مَن: الكتاب المُقدَّس أم الكنيسة؟
عندما سُئل المصلح مارتن لوثر، كيف يعرف بأن تفسيره للكتاب المُقدَّس هو حقيقي؟ وكيف يمكنه أن يقف في وجه تفاسير الكنيسة وآباءها قبله؟ أجاب: “إن رسالة الخلاص في الكتاب المُقدَّس هي واضحة جدًا، حتى أن طفلاً مُزارعًا في قرية وراء محراثه، يستطيع فهم رسالة الكتاب المُقدَّس بشكل واضح كما يفهمها اللاهوتيون الأكثر ثقافة. فشعب الله لا يحتاج الى سُلطة الكنيسة التي تفرض تفسير معين للكتاب، إنما يستطيع المؤمنون فهم رسالته الخلاصيَّة بأنفسهم بإرشاد الروح القدس”. لقد اختبر لوثر قوة الإنجيل المحرّرة ليس في الكنيسة، وإنما في فهمه لنصوص الكتاب المُقدَّس. فقوة الإنجيل المحرّرة، استبدلت فيه: الذنب بالنعمة، والشرائعيَّة بالإيمان.
إن قناعة السُلطة الكنسيَّة آنذاك بصعوبة فهم الكتاب المُقدَّس، كان سببًا رئيسيًا في حجبه عن العامة. اعتقدت الكنيسة أنه فقط الكهنة والناس المثقفون والمتعلمون يستطيعون فهم نصوص الكتاب المُقدَّس، لأنه صعب التفسير. وبالتالي، أنكروا بأن العامة يمتلكون القدرة الفكريَّة والروحيَّة لفهمه. كما قامت السلطات الكنسية باتخاذ إجراءات قاسية بحق كل من قام بترجمته أو نشره.
لم ينكر المصلِحون أن بعض النصوص في الكتاب المُقدَّس ليست واضحة وصعبة الفهم. لكن مارتن لوثر قال: يجب أن نتبع مبدأين في التفسير. الأول، عندما نلتقي بنص غير واضح، علينا أن نقارنه بنصوص كتابية أخرى واضحة، لكي ما يوضح النص الآخر غير الواضح. والمبدأ الثاني، الاعتماد على شهادة الروح القدس الداخلية في الإنسان المؤمن، التي تفسّر النص الكتابي. فكلمة الله المعلنة في الكتاب المُقدَّس، وشهادة الروح القدس الداخلية في حياة المؤمنين هي التي تؤكد على سلطته.
دَرَس معظم المصلحين الإنجيليين اللغات القديمة، لا سيما تلك التي كتب بها الكتاب المُقدَّس، اللغة اليونانية للعهد الجديد، واللغة العبرية للعهد القديم. مثلاً، دعا جون كلفن إلى استخدام القواميس وكتب قواعد اللغة والتفاسير التي كانت موجودة سابقًا. وبالتالي، استخدام إيمانهم وفكرهم. فكّر كلفن أن رسالة الكتاب المُقدَّس، تصير أكثر وضوحًا عندما تؤخذ النصوص في سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي. وبالتالي، شدّد أنه يجب على الوعاظ أن يأخذوا بعين الاعتبار الوحي الروحي، والمعرفة الإنسانية، عند الشرح والوعظ بالكتاب المُقدَّس باستقامة. وقد دعا الوعاظ لأن يكونوا مثقفين قادرين على التفسير والإقناع والإثبات.
لم يكن موضوع الجدال بين الكنيسة والمصلحين حول أهمية وقيمة الكتاب المُقدَّس، فالطرفان اعترفوا بقيمته وأهميته. فالكتاب المُقدَّس كان موجودًا في الكنيسة وباللغة اللاتينية. وقد قرأه المتعلمون من الكهنة. عندما كان مارتن لوثر راهبًا، كان يلجأ باستمرار الى مكتبة الدير ليقرأ الكتاب المُقدَّس. وقد تخصّص في دراسة الكتاب المُقدَّس وصار أستاذًا للعهد الجديد. لم يكتشف لوثر الكتاب المُقدَّس، لكنه توقف عند نصوص محدّدة، لا سيّما رسائل رومية وغلاطية التي تشدّد على التبرير بالإيمان. لكن لم يتفّق لوثر مع الكنيسة الكاثوليكية في استنادها إلى ثلاثة عناصر تستمد منها سلطتها: الكتاب المُقدَّس، التقليد الكنسي، وتعليم الكنيسة الرسمي.
إن الجدال الرئيسي بين المصلحين الإنجيليين، والكنيسة الكاثوليكية هو: الكنيسة أم الكتاب المُقدَّس؟ اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية، أن الكتاب المُقدَّس يدين بوجوده الى الكنيسة. فهي التي قرّرت ما هي الكتب القانونية التي يجب أن يتضمنها لائحة الكتاب المُقدَّس، وما هي الكتب التي يجب أن تكون خارج عنه. وبالتالي، اعتقدت أن السلطة النهائية هي الكنيسة، إذ أن الله أعطى الكنيسة من خلال هيكليتها الإدارية سُلطة التفسير وحلّ الجدالات اللاهوتية والأخلاقية. لهذا، الكنيسة تسبق الكتاب المُقدَّس وهي تأتي في المرتبة الأولى.
لكن وجهة نظر المصلحين، كانت مختلفة، هي أن آباء الكنيسة استلموا لائحة الكتب القانونية، التي كانت مقبولة لدى مؤمني الكنيسة بشكل واسع، ولم يدَّعوا أنهم كان لهم سلطة عليها. لكنّهم على العكس، انحنوا لسُلطة الكتاب المُقدَّس. قال المصلحون، عندما نقبل المسيح كمخلص وسيد، هذا لا يعني، بأنه يصبح لنا سلطة عليه. فالله هو الذي جعله ربًا وسيّدًا. وعلينا فقط قبول هذه الحقيقة ببساطة. آمن المصلحون أن الكلمة أو الكتاب المُقدَّس، أتت قبل الكنيسة. فالكلمة هي التي أوجدت الكنيسة. كلمة الله لإبراهيم، هي التي أدخلته في شركة معه. كلمة الله لموسى، هي التي أسّست شعب الله القديم أو كنيسة العهد القديم. كلمة الله التي وعظ بها بطرس في يوم العنصرة، هي التي ولدت كنيسة العهد الجديد. بالكلمة تخلق الكنيسة وبالكلمة تستمر. وعندما نوقف الوعظ بالكلمة تموت الكنيسة. لهذا تستمد الكنيسة سلطتها من الكتاب المُقدَّس. قال مارتن لوثر في البند 66 من بنود إصلاحه: “إن كنز الكنيسة الحقيقي، هو إنجيل مجد نعمة الله”. لقد تأسس وانتشر الإصلاح، عندما قبل الناس سلطة كلمة الله على حياتهم”. قال المصلح جون كلفن: “إن تمسكنا بسلطة الكتاب المُقدَّس وحدها، هو ما يميّز إيماننا عن الآخرين. نحن نؤمن، بأن الأنبياء والرسل نقلوا كلمته إلينا. نحن نؤمن أن الله كلّمنا ويكلمنا من خلاله، بواسطة ابنه يسوع المسيح الكلمة المتجسدة. هناك نسمع صوت المسيح وهناك نرى سلطته”.
واجه لوثر السؤال: سلطة من الكنيسة أم الكتاب المُقدَّس؟ في موقفه الشهير عام 1521 أمام الإمبراطور والسلطة الكنسيَّة، الذين طلبوا منه إحراق كتبه والتراجع عن كتاباته. فأجاب لوثر: “إن لم اقتنع من خلال كلمة الله في الكتاب المُقدَّس والعقل السليم، لن أقبل، لأن سلطة البابوات والمجالس ناقضت بعضها البعض خلال التاريخ الكنسي. ضميري أسير كلمة الله. هنا أقف لن أتراجع، فليساعدني الله”. وبالتالي، اعتبر لوثر أن سلطة كلمة الله “ضميري أسير كلمة الله”، هي أعلى من كلّ سلطة أخرى، كنسيَّة كانت أم زمنيَّة. في تفسير لوثر، لرسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 1: 8 –10: ” وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلَاكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»! كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ ٱلْآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»! أَفَأَسْتَعْطِفُ ٱلْآنَ ٱلنَّاسَ أَمِ ٱللهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ ٱلنَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ، لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ”. يقول لوثر في كلامه عن أناس من غلاطية، يريدون أن يحوّلوا إنجيل المسيح الى إنجيل آخر: “من يستطيع أن يتجرّأ ويدّعي، بأن له سُلطة على الكتاب المُقدَّس. سُلطة الكتاب، هي الملكة التي يجب أن تحكم، وعلى الجميع طاعتها والخضوع لها. فلا أحد يجب أن يعتبر نفسه، سيدًا على الكتاب المُقدَّس. لا بولس، ولا ملاك من السماء، ولا أوغسطينوس، ولا البابا، ولا لوثر، بل يجب على الجميع الخضوع لسُلطة الكتاب المُقدَّس”.
لا شك أن موقف الكنيسة الكاثوليكيَّة في طريقة التعامل مع الكتاب المُقدَّس قد تغيّر كثيرا، لا سيّما في المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي شجّع المؤمنين الكاثوليك إلى قراءة الكتاب المُقدَّس بانتظام. كما أن الكاردينال “والتر غاسبر” المسؤول الرسمي عن دائرة الوحدة المسيحيَّة في الفاتيكان، قام عام 2008، بتشجيع الكاثوليك، على قراءة تفاسير لوثر للكتاب المُقدَّس، وترانيمه التي ألّفها لأنها مليئة بالقوة الروحيَّة.