!التَشَبُّهُ بِالمَسيحِ

التَشَبُّهُ بِالمَسيحِ!

أفَسُس ٤: ١-٢

الكَنيسَةُ المَسيحِيَّةُ، تَرتَبِطُ ارتِباطاً حَيَوِيَّاً بِشَخصِ المَسيح. فهيَ تَتَكَوَّنُ مِن أولَئِكَ الَّذينَ يَثِقونَ بِهِ حَقَاً ويَعتَرِفونَ بِوَلائِهِم لَهُ عَلَنَاً وبِلا تَرَدُّد. اعتِرافُ الكَنيسَةِ الأصيلِ هو أنَّها جَسَدُ المَسيحِ الجَامِعِ الشَامِل لِكُلِّ أعراقِ وطَبقَاتِ البَشَرِ، يَتِمُ تَجميعَهُم بِقوَةِ روحِهِ القُدوسٍ، الَّذي يُرَسَّخُ في أذهَانِهِم وأفئِدَتِهِم رِسالَةَ الإنجيلِ. هُم جَسَدٌ رَوحَاني. الكِتابُ المُقَدَّسُ يُعَلِّمُ أنَّ رأسَ الكَنيسَةِ هوَ المَسيحُ بالذات. وهيَ تُشَكِّلُ جَسَدَهُ الروحيّ عَلَى أرضِنا هذهِ. نعم الكنيسةُ تَضُمُ أولَئِكَ الَّذينَ صَاروا أعضاءً في جَسَدِهِ الروحيّ المُباركِ الواحِد، ذلكَ الانضِمامُ ينتُجُ عن عمَلِ النِعمَةِ الإلَهِيَّةِ الخَلاصِيَّةِ المُبارَكَة. وهُم كذلِكَ يَنتَمونَ لِبَعضِهِم البَعضَ ويَتَمَتَّعونَ بِقيادَةِ وتَوجِيهِ مُخَلِّصِهِم يَسوع.

تَمَتَّعَ الرَسولُ بُولُس، بِرؤيَةٍ مُبارَكَةٍ لِكَنيسَةِ المَسيحِ الحَقيقيَةِ، وهيَ تَكتَمِلُ عَبرَ التَارِيخِ البَشَرِي. فَالتَاريخُ صِيغَ وهوَ مُوَجَهٌ بِسِيادَةِ يَسوع الربانيةِ المَلَكِيَّةِ لِتَجميعِ وتَقدِيسِ جَسَدِهِ بِقوَةِ كَلِمَتِهِ ورُوحِهِ القُدوس، وهوَ يُحَضِّرَهُم لِلِقائِهِ حَولَ عَرشِ مَجدِهِ السَمَاوي. نَعَم، يَسوعُ يوَفِرُ لِكَنيسَتِهِ كُلَّ ما يَحتَاجُهُ اكتِمالُها، وكُلُ ذَلِكَ يُحَقِّقُ الحَمدَ والتَمجيدَ للربِ الإلهِ الحقِ، بَينَ كُلِّ أجيالِ المؤمِنينَ عَبرَ صَفحَاتِ التَاريخ. هَذَا هوَ المَفهومُ الرَسولي لِطَبيعَةِ الكَنيسَةِ، جَسَدِ المَسيح، الَّذي افتُدِيَ بِدَمِهِ. فجماعةُ الإيمانِ الحقيقيةِ تَتَّمَتَعُ بِمَكَانَةٍ مُبارَكَةٍ تجعَلُها جَسَداً مُقَدَّساً في عَالَمٍ يَتَخَبَّطُ في الضَلالِ الفِكري والظَلامِ الأخلاقِي.

الكَنيسَةُ المَسيحِيَّةُ، قُصِدَ لَهَا وجوداً مُبارَكاً تَحتَ رَايةِ يَسوع، مُخَلِّصِها القُدُّوس، وهي تَشهَدُ لَهُ ولِنِعمَتِهِ الغَنِيَةِ السَخِيَّةِ ـ في كُلِّ مُجتَمَعٍ بَشَرِي توجَدُ فِيه.

الرَسولُ بُولُس استَخدَمَتهُ النِعمَةُ الإلَهِيَّةُ، مُستمعيَ الكرام، لِتأسيسِ جَمَاعَةِ الأيمَانِ في مَدينَةِ أفَسُس القَديمَةِ. جُهودُهُ المُضنِيَّةُ النَاجِحَةُ أثمَرَت. لَكِنَّ ذَلِكَ سَبَّبَ لَهُ الغَيظَ والمُقاوَمَةَ مِن قِبَلِ أولَئِكَ الَّذينَ رَفَضوا رِسالَةَ الإنجيل، فَانتَهَى بِهِ الأمرُ سَجيناً فَاقِداً لِحُرِيَّةِ الحَرَكَةِ. لَكِنَّ رَسولَ المَسيحِ الأَمينِ لَم تَضغُفْ مَحَبَتُهُ للنفوسِ الضالةِ ولَم تَنطَفئ غِيرَتُهُ وهوَ يَفتَكِرُ بِحَاجَاتِ جَماعاتِ المؤمِنينَ الرَعَوِيَّة. اجتَهَدَ كَثيراً وهوَ يَكتُبُ الرَسائِلَ التَعلِيمِيَّةَ والرَعوِيَّةَ لِجَماعاتِ الإيمانِ في أماكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ. ذَلِكَ شَمِلَ الكَنيسَةَ المَحَلِّيَةَ في مَدينَةِ أفَسُس. في رِسالَتِهِ لَهُم سَعَى لِتَطمِينِهِم عَن مَكانَتِهِم المُبارَكَةِ كَجَسَدِ المَسيحِ. وهوَ في نَفسِ الوَقت يُذَكِّرُهُم بِدَعوَتِهِم السَماويَّةِ لِحَملِ سِمات يَسوع في العالَمِ، والشِهادَةِ لِمَحَبَتِهِ وقَدَاسَتِهِ. يَقولُ الفَصلُ الرَابِع مِن رِسالَتِهِ لَهُم: “فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ: أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ.” (أفَسُس ٤: ١-٢)

قَضَى الرَسولُ بُولُس ثَلاثَ سَنَواتٍ كاملةٍ وهوَ يُعَلِّمُ ويَرعَى جَماعَةَ الإِيمانِ في مَدينَةِ أفَسُس. وكَانَ عَلَيهِم أن يُدرِكوا أنَّ الانتِماءَ لِلمَسيحِ يَجعَلُهُم فِعلاً جَسدَهُ المُبارَكَ في العَالَمِ. وكانَ الرَسولُ يسعى لِقيَادَتِهِم لِتَنعكِسَ فيهِم فِعلاً الحَياةُ المَسيحِيَّةُ الأصِيلَةِ. ذَلِكَ يَعنِي أنَّ جَمَاعَةَ الإيمان تَعكِسُ في حَياتِها عَلاقَتَها الحَيَّةَ بِالمَسيحِ اِلمُخَلِّص. فهُم لَم يَعودوا “أمواتاً بِالذنوبِ والخَطَايا“، لِأنَّ يَسوعَ أقَامَهُم مِن مَوتِهِم الروحِي ووَهَبَهُم حَياةً جَدِيدَة. هُم كَجَسَدِهِ المُبارَكِ يَتَمَتَّعونَ بِدَعوَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أفرزتهُم ِلحَياةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ يَسوعٍ، آدَمِ الجَديد. هكذا فإنَ المَسِيحِيّينَ الحَقِيقِيّينَ يَعشَقونَ تَقَفِّي خُطُواتِ مُعَلِّمِهِم وسَيدِهِم.

عَاشَ يَسوعُ عَلَى أرضِنا هَذِهِ، حَيَاةً مُطلَقَةَ الكَمال وَثَّقَتْ تَعالِمَهُ السَماوِيَّةَ الخَالِدَةَ. عَاشَ يَسوعُ تَعليمَهُ قَبلَ أن يُعَلِّمَهُ. وهوَ، كَآدَمِ الجَديد، قَبِلَ عَلَى نَفسِهِ الاتِضاعَ، عِندَمَا أضَافَ لِطَبِيعَتِهِ الرَبَانِيَةِ طَبيعَتَنَا البَشَرِيَّةَ المَحدودَةَ. وقد اختارَ لنَفسِهِ حَياةً بَسيطَةً مُتَّضِعَةً. لم يسع يسوع خلف حياة مُرَفَهَةٍ مادياً أو اجتماعياً.  كَانَ الرَسولُ بُولُس عَلَى وَعيٍّ بِذَلِك. كَمَا أنَّهُ كَانَ عَلَى وَعيٍّ بِحَقِيقَةٍ أُخرى وهيَ أنَّ أقرَبَ الأقرَبينَ بينَ أتبَاعِ يَسوع، أوَلَئِكَ الَّذينَ اختَارَهُم وجَعَلَهُم رُسُلاً لَهُ، احتاجوا لِكَثيرٍ مِنَ الوَقتِ والجَهدِ لإِتِّباعِ أسلوبِ حَياةِ سَيِدهِم المُتَّضِعةِ. فالغيرَةُ والحَسَدُ سَبَّبا الانشِقاقَ بَينَهُم مِن وَقتٍ لآخَر. تَنَافَسوا مَعَ بَعضِهِم البَعض عَلَى مَن هوَ الأعظَم بَينَهُم! هَذَا سَبَّبَ لَهُم بَعضَ النفورِ وعطلَ محبتَهم لبعضِهم البعض، كما حَرَمَهُم مِن السَلامِ الحَقيقِي. ذَكَّرَهُم يَسوع بِأنَّهُ كَابنِ الإنسان، آدَمِ الجَديد “لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.” (مَتَّى ٢٠: ٢٨) نَعَم، هوَ جَاءَ لِفِداءِ البَشَرِ الخُطاةِ مِن أمثَالِنا.

يَسوع جَسَّدَ، المَحَبَةَ الصَادِقَةَ لِلأعداء. أعدَاؤهُ أهَانوهُ ونَكَّلوا بِهِ، لا وبَل صَلَبوهُ كَمُجرِمٍ وهوَ لَم يَقتَرِفْ جُرمَاً ولا خَطأً واحِداً، لا في الفِكرِ أو القَولِ أو الفِعلِ. ومع ذلك فهو عَبَّرَ عَن مَحَبَتِهِ لَهُم وطَلَبَ لَهُم المَغفِرَة وهو مُعَلَقٌ على صليبِ العارِ الذي قَبِلَهُ لنَفسِه، ليُنجِذ عَمَلَه الخلاصي.

يَقولُ بُولُس لِجَمَاعَةِ الإِيمان في أفَسُس أنَّ انتِمائَهُم لِيَسوع يَعنِي أن يَسلكوا “بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ”. الرَسولُ ذَكَّرَهُم أنَّهُم كَمَسِيحِييِّنَ تَوَجَّبَ عَلَيهِم أن تنَعَكِسَ في مَسَالِكِهِم حَياةَ يَسوعٍ المُتَّضِعَةِ الوَديعَةِ الواهِبَةِ لِلنَفسِ. لَم يَسعَ يَسوع وَرَاءَ الشُهرَةِ أو الفَخَامَةِ أو أُبَهَةِ الزَعَامَةِ، قَلبُهُ تَثَقَّلَ بِأعوازِ وأعباءِ البَشَرِ المَسَاكين. شَارَكَهُم أحزَانَهُم ودَعَاهُم لِإلقاءِ هُمومَهُم عَليه. هَكَذَا وَهَبَ يَسوع نَفسَهُ لِيَجمَعَ جَسَداً روحَانِيَّاً لَهُ، يتَشبَهُ بهِ ويَعكِسُ مَحَبَتَهُ المُتَفَانِيَّةَ واستِعدَادَهُ لِلعَطاءِ المُتَفَانيَ والمُتَواصِل.

لَهُ كُلُّ المَجد!