إِيمَانٌ ومَحَبَّةٌ

إِيمَانٌ ومَحَبَّةٌ

(أفَسُس ٣: ١٤-١٩)

خِدمَةُ بُولُس كِرَسولٍ ومُبَشِّرٍ وَواعِظٍ ومُعَلِّمٍ ورَاعيٍ كَانَت نَشِطَةً ومُثمِرَةً. ذَلِكَ لَفَتَ انتِباهَ الكَثيرينَ مِن المُعارِضِينَ لِلإِيمانِ المَسيِحيّ، بَعضُ أولَئِكَ تَمَكَّنوا مِن إقناعِ السُلُطاتِ الرومَانِيَّةِ بِإيداعِهِ في الحَبسِ. لَكِنَّ بُولُس إعتَبَرَ ذَلِكَ مِن تَرتيباتِ العِنايَةِ الإلَهِيَّةِ الحَكيمَةِ، ولَم يَتَأفأَفْ أو يَشتَكِيّْ البَتَة. وقد فَضَّلَ أن يُرسِلَ رِسَالَةً مُطَمئِنَةً ومُعَزِيَّةً لِجَماعَةِ الإيمانِ في مَدينَةِ أفَسُسِ القَديمَة ، تلك الجماعةُ كانت قد شَعَرَت بِالإنزِعاجِ والإضطِرابِ بِسَبَبِ حَبسِهِ وآلامِهِ. كَتَبَ في الفَصلِ الثالِثِ مِن رِسالَتِهِ لَهُم: “لِذلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ.” (أفَسُس ٣: ١٣).

الكَنيسَةُ، بِالنِسبَةِ لِلرَسولِ بُولس، تَتَأسَّسُ وتُتُجَمَّعُ في التارِيخِ البَشَرِيّ بِعَمَلِ كَلِمَةِ وروحِ الله. فَالرَبُّ هوَ الَّذي يَهتَمُّ بِهَا ويُوَجِّهُهَا ، وهو يَتَحَكَّمُ في كَافَّةِ الأمور لِخِدمَةِ ذَلِكَ القَصد السَمَّاوي. ومُؤمِنو مَدِينَةِ أَفَسُس إختَبَروا عَمَلَ النِعمَةِ الإلَهِيَّةِ الَّذي نَقَلَهُم مِن الظُلمَةِ إلَى النورِ ، ومِن العَدَاءِ لِلخالِقِ المُنعِمِ الكَريم ، لِيَتَمَتَّعوا بِالبَنَوِيَّةِ الإلَهِيَّةِ. وهَكَذَا أصبَحوا جُزءًا مِن عَائِلَةِ الرَبِّ الَّتي تَضُمُ المُؤمِنينَ مِن كَافَّةِ عَشَائِرِ الأرض.

كَانَت رَغبَةُ الرَسولِ بُولُس هيَ في أن تَعِيِّيَ جَمَاعَةُ الإِيمانِ تِلكْ مَكَانَتَها المُبَارَكَةَ ضِمنَ العَائِلَةِ الإلَهِيَّةِ، الَّتي تَشمَلُ إخوَتَهُم وأخَواتِهِم الَّذِينَ إنتَقَلوا إلَى السَماءِ، فَجَماعَةُ الإِيمانِ الحَقِيقِيَّةِ تَتَكَوَّنُ مِن جَمِيعِ المُؤمِنينَ سَواءًا كانوا إنتَقَلوا إلَى السَماءِ أو مازالوا عَلَى الأرضِ، جَميعُهُم يَنتَمونَ لِلكَنيسَةِ الَّتي هيَ جَسَدُ المَسيح ، يَقولُ الرَسولُ بُولُس: “بِسَبَبِ هذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ. لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.” (أفَسُس ٣: ١٤-١٩).

يُذَكِّرُ الرَسولُ بُولُس مؤمِنِي أفَسُس، بِأَنَّهُم يُقَدَّسونَ ويُحَضَّرونَ للانتقال لِحالَةِ المَجدِ في مَحضَرِ سَيِّدِهِم ومُخَلِّصِهِم المُتَرَبِّعِ عَلَى عَرشِ جَلالِهِ في السَماء. وإذ هُم يَعيشونَ عَلَى اَلأرضِ يَحتَاجونَ لِلنموِ في عَلاقَتِهِم مَعَهُ. نمُوُّهُم الرُوحِيّ شَكَّلَ إهتِمامَ بُولُس الرَعَوِيّ بِهِم ومَضمونَ صَلَاتِهِ لإجلِهِم. فجَماعَةُ الإِيمانِ تَخوضُ حَربًا رُوحِيَّةً ضَروس، عَلَى هَذِهِ البَسيطَة، وهُم يَحتَاجونَ لِلدَعمِ والحِكمَةِ الإلَهِيَيِّن.  يَقولُ بولس أنَّهُ يُصَلِّي لأجلِهِم ” لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ (أي الله) بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ.” وهوَ يَتَحَدَّثُ أوَلَاً عَن عَلاقَةِ الإِيمانِ بِالقَلبِ. فيَقولُ: “لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ.” هَذِهِ طَبيعَةُ الإِيمانِ الصَادِقِ. الإِيمانُ القَويم، لَيسَ مُجَرَّدَ تَصدِيقٍ لِقائِمَةٍ مِنَ المُعتَقَدَاتِ الدِينِيَّةِ، فَالمُعتَقَدَاتُ الدِينِيَّةِ كَثِراً مَا تَكونُ مُجَرَّدَ أفكَارٍ دِينِيَّةٍ مِن تَجمِيعِ البَشَرِ. أمَّا الإنتِماءُ لِلعَائِلَةِ الإلَهِيَّةِ فَهوَ يَنبُعُ مِن عَلاقَةٍ حَيَّةٍ مَعَ المَسيح المُخَلِّص. الإِيمانُ الحَقُّ يَتَطَلَبُ إلتِصَاقاً حَيَويَّاً بِشَخصِ المَسيح. هَذَا يَعنِي التَشَبُّهَ والإلِتِصاقَ بِهِ. ذالك مِن شأنِهِ أن يَجعَلَ جَمَاعَةَ الإيمانِ جَسَدَاً رُوحِيَّاً، رأسُهُ يَسوع الفَادِي.

المؤمِنونَ بِالطَبيعَةِ كَغَيِّرِهِم مِن البَشَر، يَنتَمونَ لِنَسلِ آدَمِ الأوَلِ السَاقِطِ، الَّذِي أفسَدَهُ تَمَرُّدُهُ عَلَى الخَالِقِ المُنعِمِ المُبَاركِ، فَالبَشَرُ بِالطَبيعَةِ “أَمْوَاتٌ بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا”، لَكِنَّ إلتِصاقَ جَمَاعَةِ الإِيمان بِالمَسيحِ ، المُنتَصِرِ عَلَى المَوتِ، بِقوَّةِ قَدَاسَتِهِ، يَهَّبَهُم خَليقَةً جَدِيدَةً، فَنِعمَةُ المَسيحِ الخَلاصِيَّةِ، الَّتي جَذَبَتهُم لِلإيمانِ بِالمَسيحِ، نَقَلَتهُم مِن المَوتِ الروحِيّ لِلحَياةِ الجَديدَة.

يَسوع، هوَ آدَمُ الجَديدِ الَّذي يَكشِفُ لَنا عَن المَحَبَّةِ الإلَهِيَّةِ السَخِيَّةِ المُتَناهِيَّةِ العَطَاء. يَقولُ بُولُس لِمؤمِني أفَسُس: “وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.”

إذَن الإِيمانُ القَلبيُّ بِيَسوع يَهَّبُ المُؤمِنينَ مَعرِفَةً وإدراكاً لِمَحَبَّةِ المَسيحِ فِي كَافَّةِ أبعَادِهَا الَّتي لا تُستَقصَى. يَسوعُ، أوَهَبَ نَفسَهُ فِديَّةً لإعدَاءٍ مُتُمَرِّدين، وذَلِكَ مُستَحيلٌ فَهمُه مِن قِبَلِ غَيرِ المؤمِنين. الإِيمانُ القَلبِيُ وَحدُهُ يُمَكِّنُ المؤمِنينَ مِن النِموِّ في مَعرِفَةِ أبعَادِ المَحَبَّةِ الإلَهِيَّةِ الَّتي جَسَّدَهَا يَسوع لأجلِهِم، فَيَسوعُ عَبَّرَ عَن إتِضَّاعِ الإلَهِ المُقتَدِّرِ القُدُّوسِ الحَكيمِ، وعن وانضِمامِهِ لِبَشَرِيَتِنا لِكَي يُوَفِّرَ لَنا كَفَّارَةً مُبارَكَةً عَن خَطَايَانَا. عَمَلُ المَحَبَّةِ الرَبَّانِيَةِ والتَضحِيَّةِ الإلَهِيَّةَ في المَسيحِ لا يُمكِنُ لِلإِنسانِ الطَبيعِيّ أن يَتَفَهَّمَ أبعادَهُ ، إلَّا إذَا تَمَتَّعَ بِنِعمَةِ الإيمانِ الخَلاصِيّ في المَسيحِ. هَذَا هوَ عَمَلُ الروحِ القُدُّسِ المُتَعَّمِّقِ في الإنسانِ الباطِلِ ، أي في كَيَّانِ المؤمِنينَ بِأكمَلِهِ.

يَقولُ الرَسولُ بُولُس أنَّ الإِيمانَ الأصِيلَ يتَأسسُ ويَتَرَسَخُ في المَحَبَّةِ الَّتي تُمَكِّنُ جَمِيعَ القِديسيِّن، أي جَميعَ المؤمِنينَ، مِن أن يُدرِكوا عَرضَ وطُولَ وعُمقَ وعُلُوَ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، هَكَذَا تَمْتَلِيءُ جَمَاعَةُ الإِيمانِ إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ. وكُلُّ ذَلِكَ يُطَبِّقُهُ الرُوحُ القُدُّس بِكَلِمَتِهِ الحَيَّةِ المُحيِيَّةِ عَلَى أساسِ ما أنجَزَهُ يَسوع المُخَلِّص.

لَهُ كُلُّ المَجد!