المَلِكُ المُنتَصِرُ

المَلِكُ المُنتَصِرُ

(مَزمور٢٤)

عَبَّرَ المَلِكُ داوُد في المَزمورِ الرَابِعِ والعِشرين الشَهير عن حَماسَةٍ شَديدةٍ. واضِحٌ أنَّ مَسَرَّةً عارِمَةً إكتَنَفَتهُ وهوَ يُسَبِّحُ، وكأنَّهُ إنتَقَلَ مِن حالَةِ بؤسٍ ويَأسٍ لِحالَةِ الرَجاءِ والإبتِهاجِ. يَبدَأُ المَزمورُ مِن حَيثُ يَبدأُ الكِتابُ المُقَدَّسُ، لِلتأكيدِ عَلَى أن الخَالِقَ المُنعِمَ المُقتَدِرَ يُوَجِّهُ خَليقَتَهُ بِعِنايَةٍ فائِقَةٍ. يَقولُ المَزمورُ: “لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ، وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا. لأَنَّهُ عَلَى الْبِحَارِ أَسَّسَهَا، وَعَلَى الأَنْهَارِ ثَبَّتَهَا.” (مَزمور٢٤: ١، ٢)

أدرَكَ المَلِكُ داوُد، أنَّ الرَبَّ خَلَقَ الأرضَ بِكَلِمَةِ قُدرَتِهِ لِقَصدٍ مُهِم. نَظَّمَهَا ورَتَّبَ مَضامينَهَا لِتَكونَ المَسكَنَ المُريحَ لِمَخلوقِهِ الفَريدِ الخاص، الإنسان، الَّذي مَتَّعَهُ بِمُفرَدِهِ بالصورَةِ والشَبَهِ الإلَهِيَّين. هَكَذَا تَمَتَّعَ آدَمُ وَحدُهُ بَينَ كُلِّ المَخلوقاتِ بِمَعرِفَةٍ وصَلاحٍ وقَداسَةٍ، رَبَطَتهُ بِالخَالِقِ المُقتَدِرِ القُدوس.

لَكِنَّ تَجرُبَةَ العَدوِ، عدوِ الخيرِ، أسقَطَت آدَمَ وكُلَّ ذُريَّتِهِ في التُمَرُّدِ عَلَى خالِقِهِ المُنعِمِ الكَريم، هَكَذَا فَقَدَ آدَمُ شَرِكَتَهُ المُقَدَّسَةَ وعَلاقَتَهُ الحَميمَةَ، وأنفَصَلَ عَن مَحضَرِ الرَبِّ، وأنعَزَلَ تَمَاماً عَن مَزايا الصورَةِ الإلَهِيَّةِ الَّتي خُلِقَ عَلَيهَا، لأنَ تَمَرُّدَهُ أفسَدَ تِلكَ الصورَةَ. هَكَذَا تأسَّسَ عَدَاءٌ وخَوفٌ، إستَبدَلَ القُربَ والشَرِكَةَ الطَيِّبَةَ بِخالِقِهِ القُدُّوس. يَطرَحُ المَزمورُ الرَابِعُ والعشرون سؤَالاً مُهِمَّاً: “مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ؟ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟” (مَزمور٢٤: ٣)

يُشيرُ السُؤالُ بِوضوحٍ لِقَدَاسَةِ المَحضَرِ الإلَهي، ولَم يَعُد بَنو آدَم مُؤَهَّلينَ لِلتَقَرُّبِ مِن القَداسَةِ الإلَهيَّةِ. إجابَةُ المَزمورِ عَلَى هَذَا السؤالِ هيَّ أنَّ الشَخصَ المؤَهَّلَ لِلقُربِ مِن المَحضَرِ الإلَهي هو: “اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِبًا.” (مَزمور٢٤: ٤)

المؤَهِّلاتُ، واضِحَةٌ جَلِيَّةٌ، وهيَ أيادٍ طاهِرَةٍ لا تَمَسُّ الدَنَسَ، وقلوبٌ نَقِيَّةٌ، وجُهودٌ وأعمالٌ صَالِحَة، وأمانَةٌ في القَولِ والوعودِ، هَذَا يَعني العِصمَةَ المُطلَقَةَ عَن الشَرِّ، وبالطَبعِ هَذَا لَم يَنطَبِقْ لا عَلى آدَمٍ ولا عَلَى أيٍ مِن ذُرِيَّتِهِ السَاقِطَةِ، تماماً كما على المَلِكِ داوُد وكُلِّ البَشَرِيَّة.

كَانَ المَلِكُ دَاوُد عَلَى وَعيٍّ بِعَدَمِ آهلِيَتِهِ لِلإقتِرابِ مِن مَحضَرِ القَدَاسَةِ الإلَهي فَهوَ كَانَ عَلَى وَعيٍّ بِأنَّهُ وَرَثَ النَفسَ البَشَرِيَّةَ الفَاسِدَةَ مِن آدَمٍ، أبِ كُلِّ البَشَرِيَّةِ، ولَم يَكُنْ هُناكَ أمَلٌ في الخَلاصِ لَهُ أو لأيِّ إنسانٍ آخَر، لَكِن داوُدَ كَانَ عَلَى عِلمٍ أيضَاً بِرَغبَةِ الرَبِّ المُنعِمَةِ لإستِردادِ جِنسِنِا البَشَري لِنَفسِهِ. عَودَةُ البَشَرِ لِلتَمَتُّعِ بِالقُربِ والوُدِ الإلَهِيَّين إحتاجَت لِمُبادَرَةٍ سَماوِيَّةٍ إلَهِيَّةٍ مُباشِرَة. نَعَم، كَانَت الحَاجَةُ هيَ لِتَدَخُّلٍ إلَهِيٍّ شَخصِيٍّ لِخَلاصِ البَشَرِ الآثِمين.

الإسمُ “يَعقوب”، تَمَ تَغيِّيرُهُ لِلإسمِ “إسرائيل” بِتَدَخُّلٍ سَمَاوي، وهوَ إسمٌ يُمَثِّلُ الإيمانَ القَويمَ بِالرَبِّ المُخَلِّصِ المُقتَدِر. الأمرُ يَنطَبِقُ على كُلِ المؤمِنينَ الَّذينَ تَشَوَّقوا لِلرَحمَةِ ولِخَلاصِ النِعمَةِ الإلَهِيَّةِ، وتَمَسَّكوا بِالوَعدِ عَن المُبادَرَةِ الإلَهِيَّةِ السَخِيَّةِ لإستِعادَتِهِم لِلحُضنِ الإلَهي المُقَدَّسِ، كَالخِرافِ الضَالَّةِ الَّتي تُعادُ لِحَظيرَةِ غِذائِهَا وسلامِهَا. المُبادَرَةُ الإلَهِيَّةُ وُعِدَت في شَخصِ الرَبِّ ذَاتِهِ، هَكَذَا تَشَوَّقَ إبراهيمُ وكُلُّ المؤمِنينَ، مِن أمثالِ دَاوُد، لِقُدومِ المُخَلِّصِ السَماوِي. فَتَحَ الروحُ القُدُسُ عَينَيّ دَاوُد وَرَسَّخَ في قَلبِهِ الإيمان، ومَتَّعَهُ بِرُؤيَةٍ مُبارَكَةٍ لِتَحقيقِ الوَعدِ الإلَهي. سَجَّلَ دَاوُد رُؤيَتَهُ الروحِيَّة لَيسَ فَقَط لِمَجيءِ يَسوع لِعَالَمِنَا البَشَريّ، بَل أيضاً لِعَودَتِهِ الإنتِصارِيَةِ لِعَرشِهِ السَماوي، بَعدَ أن فَتَحَ بابَ السَماءِ لِيُدخِلَ مَعَهُ كُلَّ جَمَاعَةِ المَفدِيِّين. هَكَذَا أنشَدَ دَاوُد في مَزمورِهِ قائِلاً أنَه: “يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، وَبِرًّا مِنْ إِلهِ خَلاَصِهِ. هذَا هُوَ الْجِيلُ الطَّالِبُهُ، الْمُلْتَمِسُونَ وَجْهَكَ يَا يَعْقُوبُ. سِلاَهْ.” (مَزمور٢٤: ٥، ٦)

وَعَى دَاوُد، وُجودَ بَوَابَةٍ موصَدَةٍ تَحرِمُ البَشَرَ الخُطاةَ مِن دخولِ مَحضَرِ القَدَاسَةِ الإلَهي. فَالدخولُ مَسموحٌ فَقَط لِذَلِكَ القُدوسُ العَائِدُ مِن مُهِمَّةِ تَجَسُّدِهِ عَلَى أرضِنَا، مُنتَصِراً بِبِرِهِ وقَدَاسَتِهِ عَلَى الخَطِيَّةِ، وعَلَى إبليس، وعَلَى روحِ العَالَمِ الشِرير، وقَد قَهَرَ أيضاً المَوتَ بِمَوتِهِ وقِيامِةِ قَداسَتِهِ. حَقَّ إذَن لِلمُخَلِّصِ المُنتَصِرِ القُدوسِ عِمَانُؤيلِ، أن يَدخُلَ مَقَرَّهُ السَماوي، ويَفتَحَ الطريقَ لِجَماعَةِ الإيمانِ للدخولِ عَبرَ عَمَلِهِ الخلاصي. تَسبيحَةُ دَاوُد في مَزمورِنَا الرَابِعِ والعِشرين، تُعَبِّرُ عَن ذَلِكَ، فَتَقولُ: “اِرْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَارْتَفِعْنَ أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ. مَنْ هُوَ هذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟ الرَّبُّ الْقَدِيرُ الْجَبَّارُ، الرَّبُّ الْجَبَّارُ فِي الْقِتَالِ. ارْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَارْفَعْنَهَا أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ. مَنْ هُوَ هذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟ رَبُّ الْجُنُودِ هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ. سِلاَهْ.” (مَزمور٢٤: ٧-١٠)

صَرخَةُ دَاوُد المُدَوِّيَةُ، لإرتِفاعِ أرتاجِ الأبوابِ الدَهرِيَّاتِ، تَرحيباً بِقُدومِ مَلِكِ المَجد المُنتَصِرِ الجَبار في المَعرَكَةِ الروحِيَّةِ، عَادَت لِتَصِفَ المُخَلِّصَ القُدوسَ المُنتَصِرَ، لَيسَ فقط عَلَى أنَّهُ مَلِكَ المَجد، بَل أنَّهُ رَبَّ الْجُنُودِ ومَلِكَ الْمَجْدِ. فهوَ يُدخِلُ معه جُندُه الذين يوقودُهَم في مَوكِبِ نُصرَتهِ

هَذَا هو مَشهَدُ صُعودِ الفَادي المُحِب، الَّذي تَطَلَّبَ فِدَائُهُ أخذَ طَبيعَتِنَا البَشَرِيَّةِ عَلَى نَفسِهِ لِيَموتَ المَوتَ الَّذي نَستَحِقَّهُ نَحنُ، ويَقهَرَهُ، ويُقيمُ مَعَهُ مَفدِيِّيه ويُدخِلُهُم مَعَهُ لِلمَدينَةِ المُقَدَّسَةِ، أورشَليمِ السَماوِيَّةِ، التي أُعِدَت لِسُكنَى المُطَهَّرينَ بِدَمِ يَسوع، الحَمَلِ الإلَهي، الأسَدِ الَّذي قَدِمَ مِن خَطِّ الإيمانِ الإبراهِيمي. نَعَم، دَخَلَ يَسوعُ لِمَحضَرِهِ السَماوِي وهوَ يَتَمَتَّعُ بِلاهوتِهِ الأزَليّ المُطلَق، ونَاسوتِهِ البَشَري الكَامِل.

لَهُ كُلُّ المَجدِّ !