سَلامٌ إلَهيٌّ

 سَلامٌ إلَهيٌّ

(أفَسُس ٢: ١١-١٩)

بِغَضِ النَظَرِ عَن إنتِمائاتِنا، وقَناعَاتِنا الدينيَّةِ وغَير الدينيَةِ، كُلُنا نَتَّفِقُ عَلى وجودِ عَداواتٍ مُتَنَوِعَةٍ بَين البَشَرِ. العَداواتُ بَينَ البَشَرِ، تُعَبِّرُ عَن نَفسِها، ليسَ فَقَط في أنشِطَةٍ وأعمالٍ سَلبيَّةِ، ولَكِن أيضاً في أفكارٍ ضارةٍ، ومَواقِفَ هَدَّامَة. هُناك الحروب والخِصامات، والتَحَزُّبات العِرقيَّةِ والإجتِماعيَّةِ. العَداوَةُ البَشَريَّةُ، تُعَبِّرُ عَن نَفسِها، بينَ الأفرادِ والجَماعات والأعراق، ولا يُمكِن أن نَنظُرَ لَها، بِمَعزَلٍ عَن عُنفِ البَشَرِ ضِدَ بَعضِهِم البَعض، وذلك في المُشاحَناتِ البَسيطَة، كَما في الحروبِ الطاحِنَةِ. الواقِعُ أنَ صِراعاتِ البَشَرِ، تَحدُثُ حَتى بينَ نَفسِ التَجَمُّعات البَشَريَّة، ونَفس الأعراق، لا وبَل بينَ أفرادِ الأُسرَةِ الواحِدَةِ.

مُهِمٌ جِداً لَنا، أن نَتَفَكَّرَ بِعُمقٍ، عَن الحَقيقَةِ الحَزينَةِ، التي مَعَها لا نَجِدُ سلاماُ باقيَاً بينَ البَشَرِ، لا كأفرادٍ ولا مَجموعاتٍ، أو حَتى كَدِوَلٍ أو أُمَمٍ كَبيرَة. الأديانُ والهَيئاتُ الإجتِماعيَّةُ، والأيديولِوجياتُ السياسيَّةُ، وحَتى المُنَظَمات التي تَدعو لِلسلامِ، لَم تَنجَح حَتى الآن، في القَضاءِ عَلى العَداوات المُتواصِلَة، بينَ البَشَرِ.

مَضمونُ الوَحيِّ في الكَتابِ المُقَدَّس، يوَجِهُنا لِجذورِ العَداوَةِ البَشَريَّة. تُفيدُنا سِجلاتُ الكِتابِ المُقَدَس، بوجودِ نَوعين مُترابِطَين، مِن العَداوَةِ الواقِعَةِ بينَ البَشَرِ، وهَذِهِ العَداوَةُ المُزدَوَجَةُ، تَعودُ في بِدايَتِها، لِواقِعَةِ تَمَرُّدِ أبينا، آدَمِ الأوَل، الذي مِنهُ تَنحَدِرُ كُلُ بَشَريَتِنا. ذَلِكَ التَمَرُّد لَم يُسَبِبْ عُزلَةً تامَةً بينَ بَشَريَتِنا وخالِقِها المُنعِم فَحَسب، بَل عَبَّرَ عَن نَفسِهِ، مُنذُ مَطلَعِ وجودِنا البَشَريّ، في عَداوَةٍ، قاتِلَةٍ مُجرِمَةٍ، مارَسَها إبنُ أبينا آدَم البِكر، المَدعو قاييّن، عِندَ قَتلِهِ لأخيهِ الأصغَر هابيل.

رِسالَةُ أفَسُس الإنجيليَّةُ، تَتَحَدَّثُ عَن قوَةٍ، كَونيَّةٍ شريرَةٍ، تَعمَلُ بِشَكلٍ مُتواصِلٍ، عَلى تَرسيخِ عَداوَةٍ لَعينَةٍ، مُتواصِلَةٍ، بينَ البَشَرِ وخالِقِهِم المُنعِم الكَريم، مِن جِهَة، وبينَ البَشَرِ وبَعضِهِم البَعض، مِن الجِهَةِ الأُخرى. ويَقِفُ وَراءَ ذَلِكَ النَشاط الكَونيّ، عُنصرٌ روحانيٌّ غَيرَ مَنظورٍ، تَدعوهُ الرِسالَةُ: “… رَئِيسَ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحَ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ” (أفَسُس ٢: ٢). هَذا يؤَثِرُ عَلى كُلِ البَشَرِ، وقد شمَلً الكاتب، الرسولُ بولُس نَفسَه، كما شمَلَ جَميعَ المؤمِنين معه. تَقولُ الرِسالَةُ: “الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا” (أفَسُس ٢: ٣). والحَديثُ الرَسوليّ المزدوج، عَن الجَسَدِ والأفكارِ، يُشيرُ لِطَبيعَتِنا البَشَريَّة الساقِطَة.

تُواصِلُ الرِسالَةُ، مؤَكِدَةً عَلى وجودِ عَداوةٍ كَونيَّةٍ طَبيعيَّةٍ، مُتَرَسِخَة بينَ كُلِ البَشَر. هَذِهِ العَداوَة شَمِلَت أيضَاً العِبرانييِن، الذينَ أُعتُبِروا شَعبَاً لِلرَب. وبالطَبع صَفحاتُ الكِتاب المُقَدَّس مَليئَةٌ بالأحداثِ والوَقائِع، التي تؤَكِدُ عَلى مُمارَسَاتِهِم لِلعَداءِ، ليسَ فَقَط ضِدَ بَشَرٍ آخَرين، بَل ضِدَ بَعضِهِم البَعض.

ومَعَ ذَلِك، رِسالَةُ أفَسُس الإنجيليَّةُ، تَطرَحُ أمامَنا بِشارَةً مُبارَكَةُ. فهيَ تُقَدِّمُ لَنا رِسالَةَ سَلامٍ سَماويَّةٍ ناصِعَة، مَفعولُها مُزدَوجُ الفعالية، لأنها تَتَعامَلُ مَعَ عَداءِ بَشَريَّتِنا، الحَزين المُزدَوج. فَهي مِن جِهَةٍ تواجِهُ، بِشَكلٍ مَنطقيٍّ فَعَّالٍ، إنفِصالَنا العَموديّ الحَزين عَن السَماء، أي عَن الخالِق القُدّوس. ومِن الجِهَةِ الأُخرى، تُوَفِرُ أساساً عَمَليَّاً، لِعلاجِ عُزلَتِنا، وعَداوتِنا الأُفقيَّةِ، كَبَشرٍ ضِدَ بَعضِنا البَعض.

كانَ مِن الطَبيعيّ، أن تُعَبِّر طَبيعَةُ فسادِنا البَشَريّ عَن نَفسِها، في عَداوَةٍ، حَتى بينَ مؤمِنيِّ كَنيسَة العَهد الرَسولي، جَماعَةِ الإيمانِ الأولى. فبعضُ المؤمنين الأوائل إنحَدَرَوا مِن ِعِرقٍ يَهوديٍّ إعتَّزَ خَطَأً بذاتِهِ، كما إتَّسَمَ بِشعورِ التَفَوّقِ عَلَى البَشَرِ الآخَرين، وإعتَبَروا غَيرَهُم أُمَمَاً نَجِسَة. مَضمونُ الإنجيل المُبارك يَتَعامَلُ مَعَ تلكَ المُعضِلةِ بِشَكلٍ حاسِمٍ، ورِسالَةُ أفَسُس، في فَصلِها الثاني، تَتَحَدَّثُ عَن وِحدَةِ جَميعِ مَن لَمسَتهُم بَركَةُ الإنجيل، يَهوداً كانوا أم أُمَماً. تَقولُ الرِسالَةُ:

“لِذلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ قِبَلِ الْمَدْعُوِّ خِتَانًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ. وَلكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ شَريعَةَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ. فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ. لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ. فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَمع أَهْلِ بَيْتِ اللهِ.” (أفَسُس ٢: ١١-١٩).

الإنجيلُ، لا يُقَدِّمُ عِلاجَاً دِينيَاً سطحياً مُزَيَّفاً لِطَبيعَةِ العَداوَةِ الفاسِدَةِ والمُفسِدَةِ فينا. النِعمَةُ الإلَهيَّةُ الفاضِلَةُ السخيةُ دَبَّرَت مُخَطَّطاً خلاصيَّاً مُبارَكاً، في يَسوعٍ، آدَمِ الجَديد. نَعَم، في يَسوع، المَسيَّا الإلَهيِ المَوعود، فيهِ تَتَأسَّسُ بَشَريَّةٌ جَديدَةٌ، تَتَمَتَّعُ بِسلامٍ حَقيقيٍّ ثابِتٍ، مَعَ الخالِق المُبارَك، الذي يوَثِقُ لنا نحنُ البشر سلاماً وَوِحدَةً، في العِفَةِ والقَداسَةٍ والمَحَبَةِ، المِعطاءَةِ لِلذات.

لهُ كُلُ المَجد!