قَوسُ القُزَحِ
(تَكوين٩: ٨-١٧)
يَظهَرُ قَوسُ القُزَحِ عِندَ تَقاطُعِ السُحُبِ الجَميلَةِ، فيَجذِبُ إنتِباهَ البَشَرِيَّةِ ببداعَتِه. ألوانُهُ الأساسِيَّةُ الثَلاثَةُ وهيَ الأحمَرُ والأصفَرُ والأزرَقُ، تَتَدَاخَلُ مَعَهَا الألوانُ الفَرعِيَّةُ الأُخرَى، وهيَ البُرتُقالي والأخضَر والنيلي والبَنَفسجي. تَلاحمُ الألوانِ السَبعَةِ يَخلِبُ الأنظارَ. في الكِتابِ المُقَدَّسِ، يُمَثِّلُ قَوسُ القُزَحِ الجميلِ هذا عَلامَةً سَماويَّةً لِبَقاءِ البَشَرِيَّةِ.
يُفيدُنَا سِجِلُ الكِتابِ المُقَدَّسِ بِأنَّ البَشَرِيَّةَ كَادَت تَزولُ تَماماً عِندَ واقِعَةِ الطوفانِ الَّذي أغرَقَ كُلَّ أرضِنَا. لَكِنَّ وَعداً إلَهِيَّاً مُنعِماً أبقَى عَلَى وجودِ بَشَرِيَتِنا، إذ أنَ مَقاصِدَ الخالِقِ الصَالِحِ المُحِبِ هيَّ لِبَرَكَتِهَا وخَلاصِهَا. قُصِدَ لِجِنسِنَا البَشَري، الَّذي صِيغَ وَحدَهُ عَلَى الصورَةِ والشَبَهِ الإلَهييَّن، أن لا يَندَثِرَ تَماماً. إستَبقَى الخَالِقُ المُنعِمُ عَلَى بَقيَّةٍ بَشَريَّةٍ مِن ثَمانِ أرواحٍ، هي نوحٍ وزَوجَتِهِ وأبنائِهِ الثلاثَةِ وزَوجَاتِهِم. يَقولُ الفَصلُ الثَامِنُ مِن كِتابِ التَكوينِ التَورَاتي: “كَلَّمَ اللهُ نُوحًا قَائِلاً: «أُخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. وَكُلَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مَعَكَ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ: الطُّيُورِ، وَالْبَهَائِمِ، وَكُلَّ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، أَخْرِجْهَا مَعَكَ. وَلْتَتَوَالَدْ فِي الأَرْضِ وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى الأَرْضِ…” (تَكوين٨: ١٥- ١٧)
كَانَ مِن الطَبيعي، أن يَشعُرَ نوحٌ بِاِمتِنانٍ قَلبي لِجودِ الرَبِّ لَهُ ولِأُسرَتِهِ، فَهَا هوَ يُدرِكُ مِن جَديدٍ أنَّ وجودَهُ يَعتَمِدُ كُلِياً عَلَى رَحمَةِ ومَغفِرَةِ ونِعمَةِ رَبِّهِ الخَلاصِيَّة. أدرَكَ نوحٌ أنَّ الرَبَّ هوَ مَصدَرُ حَياةِ البَشَرِ الَّذي يُدَبِّرُ لَهُم أيضاً كُلَّ ما يَحتاجُون لَهُ. عَبَّرَ نوحٌ عَن شُكرِهِ وتَعَبُّدِهِ لِلرَبِّ، يَقولُ الوَحيُّ الإلَهي: “وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ. (تَكوين٨: ٢٠). لَم تَكُن ذَبيحَةَ نوحِ الرَمزِيَةِ تلك تُعَبِّرُ عَن طَقسٍ بَشَريٍّ تَدَيُّني، بَل عَن قَناعَةٍ قَلبِيَّةٍ بِحاجَةِ البَشَرِيَّةِ لِصَفحٍ إلَهِيٍّ عَن خَطيَّتِهِم. هَكَذَا عَبَّرَ نوحٌ عَن إيمانٍ صادِقٍ وإعتَمَادٍ مُتَواصِلٍ عَلَى المَراحِمِ الإلَهِيَّةِ. وقَد أكَّدَ دَلَلَ رَدُ فِعلِ الرَبِّ عَلَى تَقَبُّلِّ عِبادَةِ نوحٍ. يَقولُ النَصُّ التَورَاتي: “فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا…” (تَكوين٨: ٢١).
واضِحٌ، أنَّ الإلَهَ الخَالِقَ المُنعِمَ العَليّ سُرَّ بِذَبيحَةِ نوحٍ. ومَعَ ذَلِك فنوحٌ وكُلُ بَقيَّةِ البَشَرِيَّةِ، حتى في بِدايَتِهَا الجَديدَةِ، عَن طَريقِ نَسلِهِ هوَ وأولادِهِ الثَلاثَةِ، إرتَبَطَت جُذورُها جميعا بِأبي كُلِّ البَشَرِيَّةِ، آدَم الأوَل، الَّذي ورَّثَ كُلَ جِنسِنا البَشَري سقوطَهُ وفَسادَهُ عَلَى. يَقولُ النَصُّ التَورَاتي: “… وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ، لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ…” (تَكوين٨: ٢١). هكَذَا يَتَّضِحُ، أنَّ كَيانَ جِنسِنا البَشَري فاسِدٌ، وتَمَرُّدَهُ ضِدَّ الخَالِقِ القُدُّوسِ عَميقُ الجُذُورِ.
نَقرَأُ في الفَصلِ السَادِسِ: “وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ.” (تَكوين ٦: ٥). هَكَذَا تَأكَدَ إستِحقاقُنا جَميعِنَا لِلدَينونَةِ الإلَهِيَّةِ العَادِلَة. لَكِنَّ خَالِقَنا الرَحيمَ الكَريمَ أقَرَّ الإبقاءَ عَلَى بَشَرِيَتِنَا. يُفيدُنَا الوَحيُّ المُبارَكُ أنَّ الرَبَّ أعلَنَ: “… وَلاَ أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ.” (تَكوين٨: ٢١).
يَقولُ الفَصلُ التاسِع: “وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ.” العَجيبُ في الأمرِ، أنَّ عَلامَةَ قَوسِ القُزَحِ أقَرَّهَا الرَبُّ المُنعِمُ الكَريمُ لِتَوثيقِ وَعدِهِ هذا بِبَقاءِ جِنسِنَا البَشَري، وذلكَ بِالرَغمِ مِن عِصيانِهِ وفَسادِهِ. نوحٌ وأبنائُه الثَلاثَةُ أُنقِذوا مِن الطوفانِ الَّذي طَمَرَ الأرضَ وقَضَى عَلَى بَقيَّةِ البَشَرِ. قَالَ الرَبُّ لَهُم: “وَهَا أَنَا مُقِيمٌ مِيثَاقِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ.” (تَكوين٩: ٩).
يَا لَهُ مِن وَعدٍ سَخيٍّ في الرَحمَةِ وَهَبَ الرَبُّ بِهِ عَلامَةَ قَوسِ القُزَحِ البَديعَةِ لِلتَأكيدِ عَلَى إحتِفاظِهِ بِوجودِ بَشَريَتِنَا. يَقولُ النَصُّ التَورَاتي: “وَقَالَ اللهُ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا وَاضِعُهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِي مَعَكُمْ إِلَى أَجْيَالِ الدَّهْرِ: وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاق بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ.” (تَكوين٩: ١٢-١٧).
حَقيقَتانِ مُهِمَتانِ تَعكِسهُمَا عَلامَةُ قَوسِ القُزَحِ الجَميلَةِ. فَهيَ مِن جِهَةٍ تُفيدُنَا بِصَلاحِ وأمانَةِ الرَبِّ في تَحقيقِهِ لِكُلِّ وعودِه، وَمِن جِهَةٍ أُخرَى تُذَكِّرُنَا بِالمُخَطَّطِ الإلَهي الخَلاصي الثَابِت لإِفتِداءِ نوحٍ هوَ وَكافَةِ جَمَاعَةِ الإيمانِ، وإستِردادِهِم لِلصورَةِ والشَبَهِ الإلَهِيَيِّن.
رَحمَةُ الرَبِّ أُعلِنَت مِن جَديدٍ أيضاً عِندَ واقِعَةِ بُرجِ بابِل، الَّتي أفادَت بِتَواصُلِ تَمَرُّدِ بَشَرِيَتِنَا العَنيد ضِدَّ الخَالِقِ المُنعِمِ الكَريم، ذَلِكَ أوشَكَ عَلَى تَسَبُّبِ تَدميرِ جِنسِنَا البَشَري لِنَفسِهِ بِنَفسِهِ. نَقرَأُ في الفَصلِ الحَادي عَشر مِن كِتابِ التَكوينِ التَورَاتي: “وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا…” (تَكوين١١: ٤).
هَكَذَا نَرَى مَرةً أُخرَى طَبيعَةَ جِنسِنَا البَشَرِي المُتَغَطرِسَةِ الفَاسِدَة، هَكَذَا نَرِثُ، مِن أبينَا الأوَل آدَم، طَبيعَةَ التَمَرُّدِ والعِصيان. عِندَ بُرجِ بابِل إستَخدَمَ الإنسانُ ما حَقَّقَهُ مِن تِكنولوجيةٍ بِدائِيَّةٍ لصُنعِ قَوالِبَ حَجَريَة، تَفاخَرَ بِهَا مُعبِراً عن رَفضِ وتَحَدي سُلطَةَ الخَالِقِ القُدُّوس. لَيسَ غَريباً، أن نُلاحِظَ نَفسَ تِلكَ المَواقِفِ المُتَمَرِّدَة في أيامِنَا هَذِه، فَحَتى عَلامَةُ قَوسِ القُزَحِ تَتِمُّ إساءَةُ التَعريفِ بِهَا، إذ أنَّ مَعنَاهَا الخَلاصي السَماوي يَتِمُ تَعويجُهُ وإفسادُهُ. فَيُحَوِّرُ الخَيالُ البَشَري الفَاسِدُ عَلامَةَ قَوسِ القُزَحِ لِتَحَدِّي الصيغَةِ النَقِيَّةِ التي خُلِقنَا عَليها كبَشرٍ. هَكَذَا يَتَواصَلُ تَحويرُ وإفسادُ الصورَةِ الإلَهيَّةِ، وهَذَا مِن شَأنِهِ أن يَقودَ بَشَريَتِنَا مِن جَديد لِلقَضَاءِ عَلَى نَفسِهَا بِنَفسِهَا. فِكرُ وخَيالُ بَشَريَتِنَا الفَاسِدانِ تُوَجِّهُما أنانِيَّةٌ مُدَمِّرَةٌ، وغَطرَسَةٌ خَادِعَةٌ، وشَهوَاتٌ قَاتِلَة. حَتَى التَطَورَاتُ التِكنولوجِيَّةُ تُستَخدَمُ اليَومَ لِصُنعِ أدَواتِ الحَربِ المُدَمِّرَةِ، وتَطويرِ البِكتيريَّا والفَيروساتِ القَاتِلَةِ، هَكَذَا تَبدو بَشَرِيَتُنَا مُتَجِهَةً لِتَدميرِ نَفسِهَا بِنَفسِهَا.
لَكِنَّ القَصدَ الإلَهي لِوجودِ عَلامَةِ قَوسِ القُزَحِ، يَبقَى سَماوِيَّاً نَقِياً، بِالرَغمِ مِن إصرارِ البَشَرِ عَلَى إفسادِهَا. مُخَطَّطُ الرَبِّ لِلإبقاءِ عَلَى وجودِ بَشَرِيَتِنَا لَن يَفشَل. مُبادَرَةُ الرَبِّ المُبارَكَةِ لإفتِدائِنَا وإعادَةِ خَلقِنَا، تَجَسَّدَت وتَحَقَّقَت في آدَمِ الجَديد، المَسيحِ الإلَهيِ المُبارَك. وقد أُنجِزَت في تَجَسُّدِهِ وحَياتِهِ الأرضِيَّةِ الكَامِلَةِ العِصمَةِ ومَوتِهِ الكَفارِي وقِيامَتِهِ الإنتِصارِيَّةِ وعَودَتِهِ لِعَرشِ سموِّهِ وجَلالِهِ. يَسوع، يُمارِسُ سُلطَتَهُ المُطلَقَةَ في تَوجِيهِ كُلِّ وَقائِعِ السَماءِ والأرضِ لتَجميعِ مَفدِييهِ الذينَ يُشَكِّلونِ البَشَرِيَةَ الجَديدَةَ مِن كَافَّةِ عَشائِرِ الأرضِ، وهوَ يُنجِزُ ذَلِكَ بِقوَةِ روحِهِ القُدوس وكِلمَتِهِ الطَاهِرَةِ المُطَهِّرَة. هَكَذَا يُحَدِّثُنَا الوَحيُّ المُبَارَكُ في الكِتابِ المُقَدَّسِ عَن خَالِقِنَا المُقتَدِرِ المُبارَكِ كَإلَهِ الخَلاصِ المُحِبِ الواهِبِ لِنَفسِهِ في يَسوع.
لَهُ كُلُّ المَجدِ!