مَجدُ المَسِيحِ!
(أفسُس ٣: ٢٠، ٢١)
الإيمانُ الرَسولِيُّ، أسَاسُهُ ثِقَةٌ لا تَتَزَعزَعْ في مَكَانَةِ المَسيحِ المَركَزِيَّةِ، لَيسَ فَقَط فِي مَضمونِ السِتَةِ والسِتينَ سجلٍ الذين يشمَلُهُم الكِتابُ المُقَدَّسِ، بَل هو أيضَاً محورُ وجودِ البَشَرِيَّةِ وتَارِيخِها. شَكَّلَ ذَلِكَ تَفكِيرَ الرَسولِ بُولُس، وهكذا وَجَّهَهُ الروحُ القُدُّس لِكَي يَكتُبَ لِجَمَاعَةِ المؤمِنينَ في مَدِينَةِ أفَسُس القَدِيمَةِ. أرادَ بُولُس أن يُطَمئِنَهُم، مُؤَكِدَاً لَهُم أنَّ القُدرَةَ والإمكَاناتِ السَمَاوِيَّةِ كُرِسَتْ لإظهارِ مَجدِ المَسيح فِيهِم، عَبرَ صَفَحاتِ التَارِيخِ البَشَرِي. الفَصلُ الثَالِث مِن رِسالَتِهِ لهُمْ يُختَتَمُ بِهَذِهِ البَرَكَةِ الرَسولِيَّةِ المُفعَمَةِ بِالمَعَانِي، كَتَبَ قَائِلاً: “وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.” (أفسُس ٣: ٢٠، ٢١).
نُلاحِظُ هنا، أنَ هَذِهِ البَرَكَةَ الرَسولِيَّةَ تُختَتَمُ بِكِلمَةِ آمين، وهيَ الكَلِمَةُ الَّتي تَختِمُ وتُوَثِقُ كُلَّ صَلاةٍ مَسِيحِيَّةٍ أصيلَة. مَعنَاهَا الحَرفي هوَ “لِيَكُن الأمرُ هَكَذا“، أي أنَّهَا تؤَكِدُ عَلَى إكتِمالِ الصَلاةِ وتَسلِيمِها بِثِقَةٍ لِلمَحضَرِ الإلَهِيِّ المُنعِمِ المُبَارَكِ. لَكِنَّ كَلِمَةَ “آمين” الَّتي تَختَتِمُ هَذِهِ البَرَكَةِ الرَسولِيَةِ لَم تَأتِ كَنِهَايَةٍ لِصَلاةٍ بَشَرِيَّةٍ. إنما هيَ تُؤَكِدُ عَلَى حَقَائِقَ حَيَوِيَّةٍ تَشمَلُها هَذِهِ البَرَكةُ الرَسولِيَّة.
أولاً: نُلاحِظُ أنَّ هَذِهِ البَرَكَةَ الرَسولِيَةَ تُشيرُ لِلغَايَةِ العُظمَى لِكُلِّ نَشَاطٍ إلَهِيٍّ في التارِيخِ البَشَرِي، تِلكَ الغَايَةُ هيَ تَقدِيمُ المَجدِ لِلمَسيحِ في الكَنِيسَةِ الأمينةِ المُطيعة لكَلِمَتهِ، الَّتي هيَ جَسَدُهُ الحَي. جَمَاعَةُ الإيمانِ، ككلِ البشريةِ، وَرَثَت طَبيعَةَ آدَمِ الأوَلِ المُتَمَرِّدَةِ السَاقِطَةِ، وكَانَت عَلَى عَدَاءٍ ضِدَ خَالِقِها المُنعِم المُبَارَك، بَل كَانَ المؤمِنونَ كَغَيرَهِمِ أمواتاً بِالذنوبِ والخَطَايا، إلَّا أنَّهُم تم فَصلُهُم عَن بَاقي الخَلِيقَةِ الساقِطَةِ، لِأنَّ يَسوعَ أحياهُم بِمَوتِهِ البَدَليّ عَنهُم. نَقَلَهُم مِن ظُلمَةِ سقوطِهِم وحَرَّرَهُم مِن عبودِيَتِهِم، نَقَلَهُم مِن المَوتِ لِلحَياةِ وأمَّنَ لَهُم حَياةً جَدِيدَة. نَعَم، جَعَلَهُم خَلِيقَةً جَديدَةً، بَشَرِيَّةً جَديدَةً. أصبحوا نَسلاً آدَمِيَّاً جَديدَاً، وذَلِكَ لِأنَّهُم إلتَصَقوا بيَسوعِ، آدَمَ الجَديد. هُم خَاصَّتُهُ، فهوَ إفتَدَاهُم بِدَمِهِ، وإذ حَقَّقَ الفِداءَ لَهُم فَإنَّهُ أنجَزَ مُصَالَحةً مُبَارَكَةً، فَتَحَت لَهُم شَرِكَةً مُقَدَّسَةً ودُخولاً مُبارَكاً للمَحضَرِ الإلَهِي. المؤمنونَ يَنتَقِلونَ مِن العَداءِ، لِيَتَمَتَّعوا ببَنَوِيَّةِ الآبِ السَماوي المُحِب. نَعَم، يُصبِحونَ كَنِيسَةَ المَسيح، جَسَدَهُ الروحِي. هوَ رأسُهُم وهُم هَيكَلُهُ. كَجَسَدِهِ المُبارَك، هو يَسكُنُهُم بِروحِهِ القُدوس. وهو كَرَأسِهِم يقودَهُم ويُوَجِّهَهُم بِفِكرِهِ المَجيدِ ومَشيئَتِهِ الطاهِرَةِ. جَمَاعَةُ الإيمان تَعكِسُ طَبيِعَةَ صَلاحِهِ وقَدَاسَتِهِ ومَحَبَتِهِ الواهِبَةِ لِلنَفسِ. هَكَذَا يَنعَكِسُ مَجدُ المَسيحِ في جَمَاعَةِ الإيمان.
ثَانِياً: البَرَكَةُ الرَسولِيَّةُ، تُشَدِّدُ عَلَى أنَّ مَجدَ المَسيح في الكَنيسَةِ لا يَحِدُّهُ زَمانٌ أو وَقتٌ. فلا تَخلو حِقبَةٌ واحِدَةٌ في التَارِيخِ البَشَرِي مِن مَجدِ المَسيح. هكذا تُؤَكِدُ البَرَكَةُ الرَسولِيَّة عَلَى أنَّه للربِ “… الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ”.
هَذَا يَعني، أنَّ مَجدَ جَمَاعَةِ الإيمانِ فِي المَسيحِ، سَبَقَ حضورَهُ الجَسَدِي في عالَمِنا، عِندَما تَجَسَّدَ وشَارَكَنا طَبيعَتَنَا البِشرِيَّةِ. مَجدُهُ حَقِيقَةٌ ثابِتَةٌ لَيسَ الآنَ فَقط، بل “في جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ” هذا إختبره جميعُ مؤمِني العهود السابقة. إختبرهُ نوح وإبراهيم ويوسف وموسى والباقين، حتى خارجَ العرقِ العبراني من أمثالِ أيوب. هَكَذا بَدَأَ الرَسولُ بُولُس رِسالتَهُ لِكَنيسَةِ أفَسُس قَائِلاً: “مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ.” (أفَسُس ١: ٣، ٤).
ثالِثاً: هَذِهِ البَرَكَةُ الرَسولِيَّةُ، تُؤَكِدُ عَلَى أنَّ القُدرَةَ الإلَهِيَّةَ عَمِلَت وتَعمَلُ وسَتَعمَلُ في كُلِّ جَماعَةِ الإيمانِ — في الماضِي والحَاضِرِ والمُستَقبَلِ، بَل وقَبلَ كُلِّ التَاريخِ البَشَرِي. نَعَم، تَقولُ الرِسالَةُ إلَى كَنيسَةِ أفَسُس: “أنَّ الله اخْتَارَنَا (فِيِ المسيحِ) قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ“. إصطَحَبَت صَلواتُ بُولُس الدَافِئَةُ الوَاثِقَةُ، جَمِيعَ أنشِطَتِهِ الرَسولِيَّة والتَبشيرِيَّةِ والتَعلِيمِيَّةِ والرَعَوِيَّةِ. وهوَ كَتَبَ كُلَّ رَسائِلَهِ بِروحِ الصَلاةِ، الَّتي إتَّسَمَت دَائِماً بِمَعرِفَتِهِ الواثِقَةِ والمُتنَامِيَّةِ لسماتِ وطبيعَةِ الإلَهِ الحَقِّ، الحَيِّ، الحَكيمِ، الإلهِ المُقتَدِرِ والقُدوسِ والمُحِب. بَرَكَتُهُ الرَسولِيَّة تَقولُ: “أنَّ الرَبَّ قادِرٌ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا”. واضِحٌ أنَّ صَلاةَ بُولُس إتَّسَمَت بِمَركَزِيَّةِ الرَب في حَياتِهِ. كَانَ على وعيٍ دائمٍ بِأنَّ العَطَايا الإلَهِيَّةَ لِجَمَاعَةِ الإيمانِ لا تُحَدُّ أو تَقتَصِرُ عَلَى ما يَطلبنَوهُ هُم. إختَبَرَ بُولُس الإلَهَ المُقتَدِرَ، الحيَّ، الَّذي كَشَفَ عَن نَفسِهِ في المَسيحِ، كالإلَه الَّذي تَتَّسِمُ عَطَاياه بِسَخاءٍ يَتَخَطَّى آمَالَ وتَوَقُعَاتِ جَماعَةِ الإيمان، في رِسالَتِهِ لأهلِ رُومِيَّة تَحَدَّثَ بُولُس عَن ذَلِك فَكَتَبَ قائِلاً: “اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟” (رومِيَّة ٨: ٣٢).
النِعمَةُ المجيدةُ التي تَعكِسُهُما هَذِهِ البَرَكَةُ الرَسولِيَّة واضِحَةٌ وجَلِيَّةٌ. فَبَرَكَةُ الرَبِّ لِجَمَاعَةِ الإيمانِ الحَقِيقِيِّنَ المُلتَصِقينَ بِيَسوعِ المُخَلِّص لا تَحِدَهَا حدودٌ. كُلُّ مَن يَلتَصِقونَ بِيَسوع يُصبِحونَ جُزءاً مِن جَسَدِهِ المَجيدِ المُبارَك. القَصدُ الإلَهيُّ الأكيدُ الَّذي إنتَظَمَ ويَتَواصَلُ في التَارِيخِ البَشَرِي هوَ لِحَمدِ وتَمجيدِ المَسيح، في كُلِّ الأجيالِ البَشَرِيَّةِ، وذلكَ عَن طَريقِ الكَنيسَةِ الَّتي تَتَقَدَّسُ بِروحِ المَسيح. هو يُحضِرَها ويؤهلَها لمُلاقاتهِ في مَجدِهِ السماوي المَهيب، وهي تَعكِسُ مجدَهُ عبرَ التاريخِ البشري.
لَهُ كُلُّ المَجد!