إِحياءُ النَفسِ

إِحياءُ النَفسِ

مزمور 19

الكتابُ المقدس لا يتعاملُ مع أسئلةٍ عن وجودِ الله. على العكسِ، وجود الله مُفتَرَضٌ كعِلَةِ كُلِ وجودٍ، فيبدأُ وحيُ الكتابِ المقدس بهذا التصريح: “فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ”. (تك1: 1)

الكتابُ المقدسِ يُركزُ على إعلانِ الله عن نفسِهِ وعن علاقَتِه بالخليقةِ وبجِنسِا البشري. يتحدَّثُ داودُ في مزموره التاسعِ عشر عن أُسلوبَينِ يُعلنُ الله بهُما عن نفسِهِ. تقولُ أعدادُ المزمورِ الستةِ الأوَّلْ:

“اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْمًا. لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ، لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ، يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا”. (مز19: 1-6)

هذا الوصفُ الشعريُ البديعُ يطرحُ أمامَنا، معالمَ شديدةَ العظمةِ والجمالِ والانسجامِ للخليقةِ ولخالِقِها. ومع ذلك فهناك مَنْ يرفُضون الإعترافَ بأنَ ذلكَ يعكِسُ وُجودَ خالقٍ مُقتدرٍ، غيرِ منظور. وهُمْ على صوابٍ عندما يُشيرون لنقائصَ ولعلاماتِ عدمِ الإتزانِ والإنحِلالِ والقُبحِ في عالمِنا. فالحقيقةُ التي لا يُمكنُ إنكارَها هي أن هناكَ علاماتٌ من الفوضى والظلمِ والألمِ، مثلَ الكوارثِ الطبيعيةِ والحروبِ والتلوثِ والمرضِ والموت. واضحٌ جدًا أن عالمَنا يعكِسُ مظاهرَ مختلفةٍ من التناقضات. فهناك انتظامًا كما هناك فوضى، هناك انسجامٌ كما هناك تنافرٌ، هناك جمالٌ كما هناك قُبحٌ، هناك سلامٌ كما هناك حروبٌ، هناك محبةٌ كما هناك كراهيةٌ، هناك صحةٌ وعافيةٌ كما هناك أمرضٌ، هناك حياةٌ كما هناك موتٌ، وهكذا تطولُ القائمة. والكتابُ المقدسُ لا يتَنَكرُ لوجودِ تلك التناقضات، بل يُوَثِقُها.

صفحاتُ الوحيِ الكريمِ تطرحُ أمامنا عالمًا صِيغَ أصلاً بشكلٍ مُنتَظمٍ ومُكتَمَل. أُقيمَ نظامُ الخليقةِ جميلاً كَمُسَكَنٍ مُريحٍ لجنسِنا البشري، الذي أُؤتُمِنَ على كُلِ الأرض، ليتمتعَ بها وليحفظَها، وقد وُهِبَ جنُسنا البشري معرفةً وفهمًا ومقدرةً لتوجيهها وحِفظِهَا والتمتُعِ بها. صِيغَ جِنسُنا البشري كالمخلوقِ الوحيدِ الذي وُهِبَ الصورةَ والشبهَ الإلهِييْن. فَجنسُنا البشريُ وحدُهُ وُهِبَ مَيِزَةَ القُربِ من الخالِقِ والانسجامِ معُهُ، في شَرِكَةٍ طيبةٍ وَدودَةٍ. في نهاية الفصل الثاني من كتاب التكوين التوراتي نُلاحظُ أن أبانا الأولَ، آدمَ عَكَسَ انسجامًا كاملا ًمع خالِقِهِ، وذلك يتبينُ في تسميتِهِ للكائناتِ الحيّةِ، كما في استنتاجِهِ لحاجتهِ لشريكةِ حياة، التي هي أيضًا تمتعت بكامِلِ إنسانيتِهِ وشاركَتهُ الصورةَ والشبهَ الإلَهييَن. واضحٌ أنه هكذا اكتملت سعادةُ آدم، ولم يَنقُصهُما هو وعروسُه شيئًا. المؤسفُ أن انسجامَ أبوينا الأوليْن مع خالقهِما المُحبِ المِعطاء تَصَدَّعَ وفسَدَت طبيعَتهُما وأُفسِدَت الخليقةُ معهما.

 والمُحزنُ جدًّا، أن نرى استسلامَ أبوينا الأوليْن لتجرِبةٍ شِريرةٍ دعتهُما لفُقدانِ الثقةِ في مقاصدِ وترتيباتِ خالِقِهم الصالح. تَمردا على تَعليماتِهِ الحكيمةِ المُقدَسة. ذلك بالذات هو الذي أفسدَ معرفةَ البشرِ لله الحي الخالقِ القيوم. المعرفةُ المُفسَدَةُ إصطحبتها انهياراتٌ وانحِرافاتٌ في الخليقةِ الإلهيةِ التي إستؤمِنَ عليها جنُسنا البشري.

لكن الخالقَ الصالحَ المُحبَ لا يتَسمُ فقط بالقداسةِ والقدرةِ والحكمةِ المُطلقة، بل هو أيضًا مُنعمٌ، رحيمٌ ومُحبٌ، وواهبٌ للنفسِ. لم يتخلى الربُ عن جنسنا البشري ولم يتركْهُ لضلالِه وشُرودِهِ وضياعِهِ وفسادِهِ ومعرفته المعوّجةِ لخَالِقه. واصلَ الخالقُ المُنعمُ إهتمامَه وترتيباتِهِ لإصلاحِ شأنِ جِنسِنا البشري، وشَرَعَ في بدءِ ترتيباتٍ مُباركةٍ للإعلانِ عن ذاتِهِ لنا بوضوح. يَتَحَدَّثُ لنا ويكشفُ لنا عن نفسِهِ عن طريقِ إعلانِهِ المُسَجَلِ عبرَ صَفَحاتِ الكتابِ المُقدس. في الجزء الثاني من المزمور التاسع عشر نجدُ وصفًا لذلك الإعلان الإلهي المُباشر. يقول:

شريعةُ الرَّبِّ كَامِلةٌ، تَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ، تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا. وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ، تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ، يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَاد. ِأَيْضًا عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ“. (مز19: 7-11)

هذا الجزءُ من المزمورِ التاسع عشر يُذَكِرُنا بحاجةِ أنفسِنا الفاسدة للتَنقيةٍ. وأما ما يُعيدُ لأرواحِنا نقائَها فهو العملُ الإلهيُ المباشرُ بشريعتِهِ الطاهرةِ، وشهادَاِتهُ الصادقةِ، ووصاياهِ المُستَقيمةِ، وأحكامِهِ العادِلةِ. دعونا نتذَكَرُ أن الوحيَ الإلهيَ في الكلمةِ المُسَجَلَةِ يُعَرِّفُنا بالربِ لهدفٍ سامٍ مباركٍ وهو إستعادتِنا للقُربِ منه.

يصفُ لنا داود كلمةَ الربِ بالصدقِ والحكمةِ والبساطةِ والنقاءِ، وهي من شأنِها أن تهبنا المسرةَ وهي تُنيرُ أذهانَنا بحلاوتِها وثراءِها. هذه تمامًا وسيلةُ الربِ لتحذيرِنا وإرشادِنا وإستردادِنا لمعرفةٍ حقيقيةٍ له وشَرَكَةٍ حميمةٍ مَعَهُ.

يقولُ المزمورُ:

“اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا. مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. أَيْضًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ احْفَظْ عَبْدَكَ، فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ”. (مز19: 12، 13)

هكذا نحن مدعوونَ، لإدراكِ ضلالِنا وجهلِنا وغطرسَتِنا وكبريائِنا القاتِلةِ.

يُختَتَمُ المزمورُ بالتأكيِد على حاجةِ قلوبِنا وأذهانِنا للمشورةِ والتوجيهِ الإلهييْن. يقول:

“لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ، يَا رَبُّ صَخْرَتِي وَوَلِيِّي”. (مز19: 14)

هكذا يُعبِرُ داودُ عن حاجَتِنا الماسةِ لإدراكِ خطيتِنا وعوَزِنا لترتيباتِ خالِقِنَا الكريم، لإنقاذِنا وافتدائِنا.

أعلنَ الله عن نفسِه في مُعاملاتِهِ مع جِنسِنا البشري بشكلٍ تدريجي، عبرَ قرونٍ طويلةٍ. تلكَ المعاملاتُ سُجِلت لنا في كلمتِهِ، التي تُعلِنُ لنا بشكلٍ بارعٍ عن صلاحِ ورحمةِ ومحبةِ خالِقِنا لجِنِسنا البشري الساقطِ. فالكلمةُ الربانيةُ، نُطِقَ بها وسُجِلَت بشكلٍ تدريجيٍّ مُتصاعدٍ عبرَ أنبياءِ العهدِ القديم. أما اللوجوسُ، الكلمةُ الإلهي، فقد انضمَ في الزمَنِ المُعَيَنِ لبشريتنا وتجسدَ في المسيَّا الإلهيِ الموعود.

“الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يو1: 14). نعم، في المسيحِ كشفَ الربُ المُنعمُ عن نفسِهِ بشكلٍ كاملٍ. فيه عرَّفَنا عن نفسِهِ، لا وبل أخذَ مكانَنا. بشارةُ يوحنا الإنجيليةُ تطرَحُ لنا ذلك بشكلٍ مُقتضَبٍ وواضِحِ فتقول:

“اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ”. (يو1: 18)

وقانونُ الإيمانِ النيقَاوي يقول عن المسيحَ الربَ، من أجِلنا نحنُ البشرِ، ومن أجلِ خلاصِنا، نزل من السماء.

له كُلُ المجدِ!