المسيَّا المَوعودُ

المسيَّا المَوعودُ

كثيرونَ يحتفلونَ الآن بدخولِ يسوع الانتصاري لأورشليم. المهمُ في الأمرِ هو أن نفهمَ سجِلَ وقائع ذلِكَ الحدثِ المهمِ، فهو يعكسُ مدى اتضاعِ يسوع كالمسيَّا الملكِ الموعود. ذلكَ يُشَكِّلُ جزءًا محوريًّا في سجلِ حياةِ يسوع المعطاءةِ على الأرضِ، كما أنهُ يعكسُ خدمةَ محبتِهِ المتواصلةِ لِمَن يلتصقونَ به. عدةُ مئات من السنين، قبل واقعةِ دخولِ يسوع الانتصاري للقدس، تنبأَ عنها النبيُ زكريا. نقرأُ في الفصل التاسع مِن نُبوَتِه:

اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ“. (زكريا 9: 9، 10)

 

كانت خدمةُ النبي زكريا في القدسِ خلالَ القرنِ السادسِ قبلَ الميلاد (ق.م)، وذلك أثناءَ عمليةِ إعادةِ بناءِ الهيكل. بدأت العمليةُ عندَ عودةِ بقيةِ الشعبِ اليهودي من سبي السبعينَ سنةٍ، وزكريا كان قد وُلِدَ في سني السبي تلك. كان زكريا كغيرهِ من اليهود العائدين من السبي على معرفةٍ بكتبِ العهد القديم. هو وغيرُهُ تطلعوا بشوقٍ لتحقيقِ الوعودِ، التي سجلها أنبياءٌ سبقوه مثل إشعياء، وإرميا، ودانيال، وميخا. كما أنهُ تباركَ من خدمَةِ النبي حجي. الذي كانَ مُعاصرًا له. بالنسبةِ لزكريا وكُلِ الأنبياء، البركةُ الموعودةُ ارتكزتْ على مجيءِ المسيَّا الموعود. واضحٌ أن نبوّتَهُ عن دخولِ يسوعَ الانتصاري للقدسِ كانت قد أثارت حماسَتهُ وهو يكتُبُ عن المسيَّا كشخصٍ يختلفُ تمامًا عن باقي البشر. ونبوّتُهُ تصِفُ مملكةَ يسوع على أنَها بلا حدودٍ جغرافيةٍ ولا مثيلَ لها في التاريخِ البشري.

تَرَبُعُ الملوكِ على عروشِهِم وتأسيسُ الممالكِ والإمبراطوريات والأممِ، كُلُها تَتَّصِفُ دائمًا بالفخامةِ والأُبَهَةِ والثراءِ ومظاهر ِالنُصرةِ والقوةِ العسكرية. لكنَ زكريا يدعو جماعةَ الإيمان للبهجةِ وهُم ينتظرونَ مجيءَ ملكٍ مختلفٍ، اتضاعُهُ مُنقطعُ النظير، وهو يمتطي جحشًا بسيطًا. وتصفُ النبوّةُ الملكَ على أنه: “عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ”. (زكريا 9: 9)

ويقولُ زكريا أيضًا عنه أنه يقضي تمامًا على آلاتِ الحرب: “يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ“. (زكريا 9: 10)

تَحَدَّثَ النبيُ إشعياء قَبلَهُ عن المسيح وَوَصَفَهُ بأنه رئيسَ السلامِ ويقول:

“لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ”. (إشعياء 9: 7)

كما أنَ ميخا استخدمَ نفسَ تعابيرِ إشعياء في وصفِ طبيعةِ ملكوتِ المسيح بالقول:

“فَيَقْضِي بَيْنَ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ يُنْصِفُ لأُمَمٍ قَوِيَّةٍ بَعِيدَةٍ فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ” (ميخا 4: 3).

البشائرُ الإنجيليةُ الأربعةُ كلُها سجَلت واقعةَ دخولِ يسوع الانتصاري للقدسِ، وذلكَ تحقيقًا لنبوّة زكريا. والواقع أن يسوعَ لم يكنْ يمتلكُ حتى الجحشَ الذي توطأهُ بل إقترضهُ. الجمعُ الغفيرُ المُتَحمسُ لرؤيةِ دخولِ يسوعَ الانتصاري للقدسِ إعتقدَوا خطًأ بأن ذلكَ يُشَكَّلُ إعادةَ تأسيسٍ لمملكةِ داودِ الأرضية. نقرأُ في متى21: 9:

“وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي”.

اِتَّبَعَ الجمعُ يسوعَ لعدةِ أيامٍ أخرى، وهُم يشاهدونَ شفائَهُ للعُمي والمرضى. كانوا قبل ذلكَ انجذبوا له بعد سماعِهِم عن إقامةِ لعازَرَ من الموتِ. لكنَ غيرةَ قيادةِ اليهود الدينية ازدادت جدًّا، وهُم يلاحظونَ تأثيرَهُ على الجموع. هكذا قرروا التخطيطَ لقتلِهِ. والواقع هو أن الأغلبيةَ الساحقةَ من الجمعِ لم تفهمْ رسالةَ الأنبياءِ عن وداعةِ واتضاعِ يسوع. لذلكَ رفضوا بشدةٍ الطبيعةَ الروحيةِ لمملكتِهِ التي تتسعُ لكلِ الأمم. ولم تكُنْ سوى أيامًا معدودةً حتى أدركوا أنهُ ليس بالشخصِ المناسبِ لطموحاتِهِم الوطنيةِ الأرضية، أو لرغبَتهم في التخلُصِ من حُكمِ الرومان. هكذا اتَّفَقَ الجمعُ مع الزعامةِ الدينية ونادوا بأصواتٍ عاليةٍ طالبين من بيلاطُس أن يقومَ بصلبِهِ.

في سجلِ الإنجيل عن دخولِ يسوعِ الانتصاري للقدس نكتشفُ تحقيقًا مُذهلاً لِمَا تنبأَ به زكريا. زكريا كان قد عاصرَ قيامَ وتوُسُعَ الإمبراطوريةِ اليونانية. كان واضحًا أن القدسَ وكافةَ المنطقةِ ستخضعُ للحُكمِ اليوناني. في الفصلِ التاسعِ عشر، تَتَحَدَّثُ نبوّةُ زكريا عن انضمام اليونانيينَ لمملكةِ المسيَّا الملكِ الموعود، فتقول النبوّة:

“ارْجِعُوا إِلَى الْحِصْنِ يَا أَسْرَى الرَّجَاءِ الْيَوْمَ أَيْضًا أُصَرِّحُ أَنِّي أَرُدُّ عَلَيْكِ ضِعْفَيْنِ لأَنِّي أَوْتَرْتُ يَهُوذَا لِنَفْسِي وَمَلأْتُ الْقَوْسَ أَفْرَايِمَ وَأَنْهَضْتُ أَبْنَاءَكِ يَا صِهْيَوْنُ عَلَى بَنِيكِ يَا يَاوَانُ (أي اليونان) وَجَعَلْتُكِ كَسَيْفِ جَبَّارٍ”. (زكريا 9: 12، 13)

واضحٌ هنا أنه بما أن المسيَّا، الملكَ الموعودَ يقضي تمامًا على أدواتِ الحربِ، فإن القوسَ والسيفَ في النصِ لهما مضمونٌ روحيٌ، في المُخططِ الإلهي الخلاصي الذي يشملُ اليونَانَ وباقي الأمم. بشارةُ يوحنا تُخبِرنا عن بدايةِ تحقيقِ تلكَ النبوّة. ففي الوقت الذي فيه تآمرت القيادةُ الدينية اليهودية لقتلِ يسوع، نقرأُ في الفصل الثاني عشر من بشارة يوحنا والأعداد من 20 إلى 26:

“وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ فَتَقَدَّمَ هؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ يَا سَيِّدُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا قِائِلاً قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ

اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ”

يسوع هو المسيَّا، الملكُ الموعودُ مُنقطعُ النظير. لم يوجد ولن يوجد ملكٌ مِثلَهُ. هو الذي وضعَ جانبًا قدرَتَه السرمديّةَ ومجدَهُ وجلالَهُ الإلهيين ليعيشَ ويخدُمَ على أرضنا بكلِ وداعةٍ واتضاعٍ. كآدم الجديد المنتصر على الخطيةِ، هو وريثُ العرشِ الملكي الأبدي الموعودِ للملكِ داوّد. دخلَ القدسَ عاصمةَ المملكةِ الأرضيةِ على ظهرِ جحشٍ بسيط. وبعد أيامٍ قليلةٍ أُخرِجَ منها عنوةً لِيُصلَبَ خارجَ أسوارِها. أخذَ على نفسِهِ خطايانا ومات موتَنا، ليؤسسَ قُدسًا جديدًا، أي أورشليمَ السماويّة. إنها المدينةَ التي لا حدودَ لها، مدينةَ القداسةِ والعدالةِ والسلامِ. وهو يدعو جميعَ قبائل الأرضِ لِتَلتَصِقَ به وتتمتعَ بخلاصِهِ. خلاصُهُ يوفرُ المراحمَ الأبديةَ الموعودةَ لداود. نعم، هذه هي البركةُ الأبديةُ الموعودةُ لكلِ عشائر الأرض، عبرَ يسوع، نسلِ إبراهيم.

له كلُ المجدِ!