سِرُّ المَسيحِ
(أفَسُس ٣: ١-٦، أفَسُس ١: ٧-١٠، إشعيَّاء ٥٩: ١٩، ٢٠)
كانَ لِلرَسولِ بولُس دَورًا مهمًا، في حَياةِ الكَنيسَةِ التي تأسَّسَت في مَدينَةِ أفَسُسِ القَديمَةِ. ويَبدو أنَّهُ قَضَى وَقتًا في أفَسُس أطوَل مِن أيّ مَكانٍ آخَر. أغلَبِيَّةُ جَماعَةِ الإيمانِ هُناك انحَدَرَت مِن أصولٍ لَها جُذُورٌ عرقيةٌ وحَضاريَّةٌ ودينيَّةٌ هيلينييَّةٌ أو يونانيَّةِ. رِسالَتَهُ لِلكَنيسَةِ تَعكِسُ اهتِماماتٍ رَعَويَّةٍ عَميقَة. أرادَ أن يُدَّعِّمَ إيمانَهُم ويؤَكِدَ لَهُم مَكانَتَهُم المُهِمَّةَ ورَجائَهم الأكيدَ في المَسيحِ.
كانوا في حاجَةٍ لِأن يَطمَئِنوا بأنَّ جُذورَهُم، غَيرِ اليَهوديَّة، لا تُحَرِّمَهُم مِن أيٍّ مِن البَرَكاتِ السَماويَّةِ المَقصودَة لِكُلِ أتباعِ المَسيح. وقَد كَتَبَ بولُسُ لِكَنيسَةِ أفَسُس مِن سِجنِهِ، وقالَ في الفَصلِ الثالِث: “… أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الأُمَمُ”. (أفَسُس ٣: ١)
كانَ بولُس يَهوديًا مُتَعَصِّبًا، يعتقدُ أنَ دعوةً وواجبًا إلهيين يوجهانِه لِلدِفاعِ عَن عِرقِهِ وعن ديانَتِهِ. كانَ عَلى قَناعَةٍ بِأنَّ المَسيحَ وأتباعَهُ يُشَكِّلونَ خَطَرًا داهِمًا عَلى ديانَتِهِ وعلى شَعبِهِ. تِلكَ القَناعَةُ بَرَّرَت لَهُ الحَقَّ في اضطِهادِ كُلِ يَهوديّ يَتَّبِعُ المَسيحَ.
الواقِعُ أنَّهُ اقتَنَعَ بِضَرورَةِ وَضعِ حَدٍّ لانتِشارِ إنجيلِ المَسيح بَينَ البَشَر، مَهما كَانَ عِرقُهُم. لَكِنَّ بولُس، بَعدَ هِدايَتِهِ لِلمَسيح، لَم يَدَّخِرْ جَهدًا في مُحاوَلَتهِ لِهِدايَةِ اليَهودِ ليَسوعِ المُخَلِّص. صارَ بولُس عَلى قَناعَةٍ وَطيدَةٍ بِأنَّ يَسوعَ هوَ المَسيَّا المَوعودَ في كُتُبِ العَهدِ القَديم، وقَدَّمَ حُجَجًا مَنطِقيَّةً، لإثباتِ حَقيقَةِ أنَّ يَسوعَ حَقَّقَ كُلَ ما أعلَنَّهُ اللهُ لِليَهودِ، عَن المَسيَّا المَوعود.
إذ واجَهَ بولُسُ رَفضًا شديدًا ومُقاوَمَةً عَنيفَةً، قَرَّرَ أن يُعطي انتِباهَهُ ويَبذَل جهودَهُ لِهِدايَّةِ غَيرِ اليَهود، وقَد سُرَّ قَلبُهُ وهوَ يَرَى ثِمارًا مُبارَكَةً لِجهودِهِ المُضنيَّةِ والمُخلِصَةِ. هَذا بالطَبعِ كانَ مِن شأنِهِ أن يَزيدَ مِن غَضَبِ اليَهودِ عَليه. وكانَ بَعضُهُم يَتَمَتَّعُ بِمَكَاناتٍ اجتِماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ واقتِصاديَّةٍ مُهِمَّة. ذَلِك مَكَّنَهُم مِن إقناعِ السُلُطاتِ الرومانيَّةِ، زورًا، بِأنَّ يَسوع وأتباعَهُ يُشَكِّلونَ تَحَديَّاتٍ ومَخاطِرَ جَمَّةً عَلى إمبراطوريَّتِهِم. كانَ مِن الواضِحِ، لِتِلكَ السُلُطاتِ أنَّ أعداد مُتزايدةً من مواطنيهِم، غَيرِ اليَهودِ، يَهتَدونَ لِلمَسيح. وهَكَذا اقتَنَعوا بحُجَجِ غَيرِ المؤمنينَ مِن اليَهودِ وانضموا لجُهودِهم في اضطهادِ المَسيحييِّن. ولِهَذا السَبَب أُدخِلَ بولُس السِجنَ.
ومَعَ ذَلِك، فَإنَ الرَسولَ بولُسَ لَم تَتَثَبَّطْ عَزيمَتُهُ ولَم تَضعُفْ قَناعَتُهُ ولَم تَتَرَاخى غيرَتُهُ ولم يتراجعْ نَشاطُهُ، وهوَ يَسعى لإقناعِ مُعاصِريهِ بِبَرَكاتِ نِعمَةِ إتِّباعِ يَسوعِ المُخَلِّص.
كانَ بولُس، قَد تَحَدَّثَ، في الفَصلِ الأوَل مِن رِسالَتِهِ، عَن عَمَلِ يَسوعِ الخَلاصيّ كالَسِرٍّ الذي كانَ مَكتومًا في الماضي، يَقول: “الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ”. (أفَسُس ١: ٧-١٠)
كانَ بولُس، عَلى قَناعَةٍ بِأنَّ دَعوَةَ يَسوع الرَسولِيَّة لَهُ مَنَحَتهُ “كُلَّ الحِكمَةِ والفِطنَةِ” اللتينِ احتاجَ لَهما وهوَ يَكشِفُ عَن “سِرِّ مَشِيئَتِهِ”. في الفَصلِ الثالِث يَقولُ بولُسُ لِمؤمِني أفَسُس: “إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ. أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ. الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ، تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ. الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ. أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءٌ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ”. (أفَسُس ٣: ٢-٦)
كَانَ بولُس عَلى قَناعَةٍ وَهوَ في سِجنِه، أنَّ جَماعَةَ الإيمانِ، في أفَسُس، كانوا بِحاجَةٍ لِأن يَفهَموا سَبَبَ السِلوكِ العَدائيّ لِليَهودِ غَير المؤمنين ضِدَّ جَماعَةِ الإيمانِ. الواقِعُ أنَّ أولَئِكَ غَيرَ المؤمنين كانوا، ومازالوا، غَيرَ واعيّنَ لِحَقيقَةِ كَونِ رُسُلِ العَهدِ الجَديدِ يُعَلِمونَ ما تَحَدَّثَ بِهِ أنبياءُ العَهدِ القَديمِ، أنَّ بِشارَةَ الإنجيل سَتَنتَشِرُ في العالمِ، وأنَ كَنيسَةَ الرَبِ سَتَمتَدُ لِتَشمَلَ كُلَ الأُمَم. نَعَم، بَقيَّت تَعاليمُ أنبيائِهِم سِرًّا غامِضًا لَهُم.
كانَ بولُس، يُشيرُ لِلأساساتِ الأصليَّةِ الأَصيلَةِ التي بُنِيَّت عَليها الأُمَّةُ اليَهوديَّةُ. كانَ الرَبُّ أكَّدَ لِإبراهيّمٍ، بِشَكلٍ مُتَكَرِّرٍ، أنَّ النَتيجَةَ النِهائيَّةَ لِدَعوَتِهِ، لِتأسيسِ وبَرَكَةِ الأُمَّةِ الأرضيَّة، هوَ لِوصولِ البَرَكَةِ السَماويَّة لِجَميعِ قَبائِلِ الأرض. (تكوين ١٢: ٣، تكوين ٢٢: ١٨).
أكَّدَت جُهودُ وخَدَماتُ القيَّاداتِ الروحيَّةِ وأنبياءِ الرَبِّ في العَهدِ القَديمِ، عَلى مُخَطَّطِ الرَبِ الخَلاصيّ، في التاريخِ لِبَرَكَةِ جَميعِ الأُمَم. النَبيَّان إشعيَّاء وميخا تَحَدَّثا عَما يَتِمُ في الأيامِ الأخيرَةِ، التي عَنَت الحِقبَةَ الأخيرَةَ في التاريخِ البَشَريّ، التي تَسبِقُ قُدومَ الأبَديَّة. (إشعيَّاء ٢: ١-٣، ميخا ٤: ١-٣).
في العَهدِ الجَديدِ، يُشيرُ التَعليمُ الرَسولي لِتِلكَ الفَترَةِ ب“ملءِ الزَمان“، أي بِوَقتِ كَشفِ الرَب عَن نَفسِهِ بِشَكلٍ كامِلٍ في يَسوع، المَسيَّا المَوعود، الذي يَنحَدِرُ مِن نَسلِ إبراهيم، عن طريقِ إبنِهِ إسحق. (غلاطيَّة ٤:٤، عِبرانيِيِّن ١: ١، ٢).
إشعيَّاءُ بِدورِهِ كانَ قَد تَحَدَّثَ عَن المَسيحِ كالفادي المَوعود، وقَد أشارَ لَهُ، تَمامًا كَما تحَدَّثَ بولُس عَنهُ لِمؤمني أفَسُس، أنَّهُ الفادي الذي “بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ”. نَقرَأُ في الفَصلِ التاسِع والخَمسين مِن نبوَّةِ إشعيَّاء: “فَيَخَافُونَ مِنَ الْمَغْرِبِ اسْمَ الرَّبِّ، وَمِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ مَجْدَهُ. عِنْدَمَا يَأْتِي الْعَدُوُّ كَنَهْرٍ فَنَفْخَةُ الرَّبِّ تَدْفَعُهُ. «وَيَأْتِي الْفَادِي إِلَى صِهْيَوْنَ وَإِلَى التَّائِبِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي يَعْقُوبَ، يَقُولُ الرَّبُّ”. (إشعيَّاء ٥٩: ١٩، ٢٠)
نعم، تَمَّت في المَسيحِ، كُلُّ الوُعودِ الخَلاصِيَّةِ، وهَكَذا انكَشَفَ السِرُّ الإلَهِيُّ المَكتوم.
ليَسوعٍ كُلُ المَجد!