مِلءُ المَسيحِ

مِلءُ المَسيحِ

(أفَسُس ٤: ١٤-١٦)

الكَنيسَةُ المَسيحِيَّةُ الأمينَةُ الصَادِقَةُ في عَلاقَتِهَا مَعَ المَسيحِ، لَيسَت مُؤَسَّسةً بَشَرِيَّةً مُعتَادَةً أو ظَاهِرَةً دينِيَّةً. الكَتابُ المُقَدَّس يَعرِضُ الكَنيسَةَ عَلَى أَنَّها المَوضوعَ الأساسِي لِلمُخَطَّطِ الإلَهي في التاريخِ البَشَري. أساسُ وجودِهَا القَانوني حَقَّقَهُ المَسيحُ، بِقدومِهِ إلَى عالَمِنَا وأَخذِهِ عَلَى نَفسِهِ طَبيعَةً بَشَريَّةً كَامِلَةً، مَكَّنَتهُ مِن مُمَارَسَةِ حَياةٍ بَشَريَّةٍ مُعتَادَةٍ عَلَى الأرضِ. الكَنيسَةُ لَيسَت مُنَظَمَةً أرضِيَةً بَشَريَّةً ولا مُؤَسَّسَةً ولا كَيَّانًا مادِيًا، بَل هيَ تَتَكَوَنُ مِن بَشَرٍ مؤمنينَ، يَنتَمونَ لِكُلِّ الأعراقِ والطَبَقاتِ الاجتِماعِيَّةِ البَشَريَّةِ، انتماؤهم لَيسَ لِدينٍ مُعَيَنٍ، بَل لِشَخصِ المَسيح. إنَّهُم جَسَدُهُ الروحِي المُنتَشِرُ في كُلِّ العَالَم.

هَذَا هوَ المَعنَى الأصيلُ، لِكَونِ الكَنيسَةِ جَسَدًا روحِيًا لِمَسيحِهَا المُبارَك. يَتَمَتَّعُ المؤمِنونَ والمؤمِناتُ بِعَلاقَةٍ حَيَّةٍ بِالمَسيحِ المُخَلِّصِ، يَحصلونَ عَلَيهَا بِعَمَلِ الروحِ القُدُّسِ الَّذي يُطَبِّقُ كَلِمَةَ الحَقِّ الخلاصيَّةِ في حَياتِهِم. يَسوعُ هوَ مَلِكُهُم ومالِكُهُم. نعم هوَ الذي يَمتَلِكُهُم، فهوَ بِمَحَبَتِهِ المُتَفانِيَّةِ مَاتَ طَوعًا لِكَي يُجَهِّزَ لَهُم الفِداءَ ويُنقِذَهُم مِن الدَينونَةِ الأبَديَّةِ. أخَذَ عَلَى نَفسِهِ عِقابَ خَطَاياهِم. وقوَّةُ قَدَاسَتِهِ المُطلَقَةِ أمَّنَت لَهُ قيامَةً مُنتَصِرَة.

الكَنيسَةُ، تَنمو خُطوَةً خُطوَةً كَجَسَدِ المَسيحِ في كَافَّةِ أرجاءِ المَعمورَةِ تَحتَ قِيادَةٍ وتَوجِيهٍ سَماوِي. والمَسيحُ بِالذَات هوَ الَّذي يُوَفِّرُ لجماعةِ الإيمانِ كُلَّ ما تَحتاجُهُ لِتتمَتَّعَ بِعَلاقَةٍ حَيَّةٍ مَعَ شَخصِ الفادي. كُلُّ مَن يَلتَصِقونَ بِيسوعٍ يُصبِحونَ رَعِيَّتَهُ الخَاصَةَ، وذلكَ بِعَمَلِ روحِهِ القُدُّوس المُبارَك.

يَتَحَدَّثُ الرَسولُ بُولُس عَن ذَلِك في الفَصلِ الرَابِعِ مِن رِسالتِهِ لِلمؤمِنينَ في مَدينَةِ أفَسُس القَديمَة فَيقول: “كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِل، حَسَبَ عَمَل، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ”. (أفَسُس ٤: ١٤-١٦)

المؤمنونَ، يُصبِحونَ الجَسَدَ الروحِيَ لِشَخصِ المَسيحِ، عَلَى الأرضِ، بِحصولِهِم عَلَى مِيلادٍ رُوحِي. يُصيغَهُم الرُوحُ القُدُّسِ بِقوَةِ كَلِمَتِهِ ويَهَبَهُم حَياةً جَديدَة. وهُم كَأطفالٍ، حَديثِي الوِلادَة، يَحتاجونَ لِلطَعامِ الروحِي لِكَي يَنموا في المَعرِفَةِ وقَدَاسَةِ الحَقِّ على صورة مخلصهم، يسوع، آدَمِ الجَديدِ. وإذ هُم يَنضِجونَ في الإيمانِ يَتَعَرَّضونَ لِمَخاطِرَ من داخِلِ الجَماعَةِ ومِن خارِجِهَا. فَالمؤمِنونَ، يَخوضونَ مَعرَكَةً رُوحِيَّةً ضَروس. إبليسُ المُخَادِعُ يَسعَى دائِمًا لِتَعطيلِ نموِهِم بَل لِتَحطِيمِ عَلاقَتِهِم الحَيَّةِ مَعَ مَسيحِهِم، وهوَ كَثيرًا ما يَستَخدِمُ التَعاليمَ الفَاسِدَةَ والمُضَلِّلَةَ لِتَحطيمِ عَلاقَتِهِم بِسَيدِهِم ومُخَلِّصِهِم، المسيح.

كَانَ الرَسولُ بُولُس عَلَى وَعيٍّ بِذَلِك، وهوَ الَّذي تَعَرَّضَ لِنَفسِ المَخاطِر. اختِبارُهُ الشَخصي مَكَّنَهُ مِن إدراكِ تِلكَ المَخاطِرِ الَّتي تُواجِهُهَا جَماعَةُ الإيمانِ، مِن أجلِ ذَلِك يَقولُ: “كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ.” (أفَسُس ٤: ١٤)

والمُؤمِنونَ، يَنتَمونَ لِبَعضِهِم البَعض. فهُم جَسَدُ المَسيحِ الواحِد. لِأجلِ ذَلِكَ يَتَحَمَّلونَ مَسؤلِيَّةَ رِعايَةِ وحِمايَةِ بَعضِهِم البَعض ودَعمِ إيمانِ واحِدِهِم لِلآخَر. هَذِهِ الحَقيقَةُ الحَيَوِيَّةُ لَهَا دَورٌ مَركَزي في تَرابُطِ المُؤمِنينَ وَوِحدَتِهِم، يَقولُ الرَسول: “بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ”. (أفَسُس ٤: ١٥-١٦)

نموُ جَماعَةُ الإيمانِ، يَتَطَّلَبُ القِيامَ بِتَعميقِ جذورِ الحَقِّ الإنجيلي الخلاصي في حَياةِ بَعضِهِم البَعض، وهُم يَقومونَ بِحِمايَةِ بَعضِهِم البَعضَ مِن التَعاليمِ الخَاطِئَة ويَدعَمونَ بَعضَهُم البَعضَ في المَعرَكَةِ الروحِيَّةِ المُتواصلة. الانتِماءُ لِلمَسيحِ يَعني مواصَلَةَ النُموِ في فَهمِ تَعليمِهِ والتَشَبُّهِ بِحَياتِهِ الطَاهِرَةِ. يَسوعُ شَارَكَنَا في جَميعِ اختِبارَاتِنَا البَشَرِيَّة، تَعَرَّضَ لِنَفسِ تَجَارِبِنَا ومَصاعِبِنَا، شَارَكَنَا في كُلِّ ما نُواجِهُهُ مِن تَجارُبَ وآلام. سِلاحُ نُصرَتِهِ ارتَكَزَ عَلَى التَمَسُّكِ بِكِلمَةِ الحَقِّ الإلَهِي، الَّذي أَوحَى بِهِ الروحُ القُدُّسِ وحفَظَهُ في سِجِّلاتِ الأنبِياءِ الأطهار. هَكَذا دَحَرَ الشَيطانَ المُجَرِّبَ الشِرير، ويوَبِّخَهُ وخَجِّلَهُ عَن طَريقِ التَمَسُّكِ بِالكَلِمَةِ الإلَهيَّةِ.

يَسوعُ وَضَّحَ بِلا هَوادَة، حَقيقَةَ وِحدَةِ جَماعَةِ الإيمانِ الروحِيَّة، وقَد حَقَّقَ وَعدَهُ بِعَدَمِ التَخَلّي عَن وجودِهِ مَعَهُم بِسُكنَى روحِهِ القُدُّوس فيهم. فَالروحُ القُدُّسِ هوَ الَّذي يُمَكِّنُهُم مِن الاهتِمامِ بِبَعضِهِم البَعض، وهو الذي يُرَسِّخُ مَحَبَّةَ المَسيحِ الوَاهِبَةَ لِلنَفسِ فيمَا بَينَهُم.

جَماعَةُ الإيمانِ، يُشَكِّلونَ جَسَدًا روحَانِيًا مُكتَمَلاً، وانتِماؤُهُم لِلمَسيحِ يُوَحِدُهُم، فَهُم مُتَرابِطونَ ومُلتَحِمونَ بِبَعضِهِم البَعض في شَخصِهِ المُبارك. مَسيحُهُم يُمَكِّنُهُم مِن الرَغبَةِ المُتَواصِلَةِ في خِدمَةِ بَعضِهِم البَعض. هُم يَبنونَ واحِدَهُم الآخَر عَلَى أساسِ مَحَبَّةِ المَسيحِ الفَائِقَةِ لَهُم. لا مَجالَ لِلأنشِطَةِ والطموحَاتِ الأنانِيَّةِ بَينَ جَماعَةِ الإيمانِ. كَتَبَ الرَسولُ بُولُس لِلمؤمِنينَ في كَنيسَةٍ أُخرَى هيَ كَنيسَة فيلِبي، يَقولُ في فَصلِهَا الثاني: “لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ”. (فيلبي ٢: ٣)

المُؤمِنونَ، إذَن، ونُموُهُم في المَسيحِ يُؤَثِّرُ عَلَى كُلِّ جَانِبٍ مِن حَياةِ إيمانِهِم الشَاهِدَةَ لِقَدَاسَةِ ومَحَبَّةِ مُخَلِصِهِم الواهِبَةَ للنفس. الكَنيسَةُ المَسيحِيَّةُ، الأمينَةُ لِلرَبِّ يَسوع، وُهِبَت قُدرَةً روحِيَّةً تُمَكِّنُهَا مِن الالتِصاقِ بِالمُخَلِّصِ والنُموِ في طاعَتِهِ والتَطَبُّعِ بِقَدَاسَتِهِ ومَحَبَّتِهِ. هَكَذَا يَتَمَتَّعونَ بِحَياةٍ جَديدَةٍ في المَسيحِ تُوَحِّدُهُم في جَسَدِهِ الواحِدِ.

لَهُ كُلُ المَجدِ!