إلهُ التاريخِ

إلهُ التاريخِ

يُعتبرُ موسى أشهرُ قياداتِ العهدِ القديم وقد كان رجلاً غيرَ مُعتادٍ، عاش لمدةِ مئةٍ وعشرين عامًا. في المزمور التسعين يُقدمُ لنا استنتاجًا قويًّا وواقعيًّا عن قِصَرِ الحياةِ البشريةِ على هذه البسيطة.

وُجِدَ موسى وهو رضيعٌ في سلةٍ تطفو على سطحِ مياهِ النيل. قررت ابنةُ فوطيفار، فرعون مِصر أن تتبناهُ.

هكذا نمى وترعرعَ مُتمتعًا بحياةٍ راغدةٍ مُريحة، كما تَمَتَعَ بأعلى مستوياتِ العِلمِ المُعاصرة، فعاش موسى الأربعين سنةً الأولى من حياتِهِ مترفهًا جدًا. لكنهُ اختارَ أن يتركَ تلكَ الحياةِ المُريحةِ لِيُشاركَ أعضاءَ عِرقِهِ العبري آلامَهُم وهُم يردعونَ تحتَ طُغيانِ وعبوديةِ فرعون. هذا الإختيارُ بدا وكأنهُ قَلَبَ حياتَهُ رأسًا على عقبٍ، فقضى الأربعين سنةً التالية هاربًا من وجهِ عدالةِ الفراعنةِ في مُقاطعةِ مِديان في شبهِ جزيرةِ سيناء. هناك تَعَرَّفَ موسى على يثرون المدعو أيضًا رعوئيل، الذي عَيَّنَهُ راعيًّا لخرافِهِ، ثم تزوجَ موسى من إبنته. ومع ذلك فحتى حياتُهُ المُتضعةُ الصعبةُ كراعي خرافٍ في صحراءِ سيناء لِعبَت دورًا أساسيًّا في تَمَتُعَهُ بحمايةٍ إلهيةٍ من غضبِ فرعون وتحضيرِهِ لمهمتِهِ القاضيةِ بتحريرِ العبرانيينَ وإخراجِهِم من مِصر وقيادتِهِم لأرضِ الموعد.

عادَ موسى إلى مِصر بعدَ الأربعين عامًا تلك، ليبدأَ وظيفتَهُ الإلهيةَ، تلك الوظيفةُ الصعبةُ والمُرهِقَة جدًّا. فأهلُهُ العبرانيونَ بالذات سَبَبوا له الكثيرَ من المصاعبِ وهُم يتأفأفونَ ويشتكونَ عليه ويُشككونَ في حكمةِ قيادتِهِ لهم. فَهُم لم يستسيغوا لا رسالتَهُ السماوية ولا حياتَهُ التقيّة.

المزمورُ التسعون يكشفُ لنا عن إلتزامِهِ الأمينِ لإتمامِ دعوَتهِ السماويةِ الصعبة. في هذه القرينة يُمكنُنا أن نفهمَ قناعتَهُ بِقِصَرِ الحياةِ البشرية. يبدأُ مزمورَهُ مُحتفلاً بالعنايةِ الإلهيةِ الفائقةِ بجنِسنا البشري. ثم يقومُ بتوجيهِ إنتباهِنا لعلاقةِ جِنسِنا البشري بالإلهِ الخالقِ، وينتِقلُ للحديثِ عن الحياةِ البشريةِ الهزيلةِ والبائدةِ على هذه الأرض فيقول:

 يَا رَبُّ، مَلْجًأ كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ، أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ، تُرْجعُ الإِنْسَانَ إِلَى الْغُبَارِ وَتَقُولُ: ارْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ، لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ. (مز90: 1-4)

واضحٌ أن وجودَ الخالقِ لا يخضعُ لحدودِ زمانٍ أو مكان. بالمقارنةِ مع قِصَرِ وهزَاَلةِ الحياةِ البشريةِ يتمتعُ الخالقُ بالوجودِ الأزلي الذي لا يعتريه تغييرٌ أو ظِلُ دَوَرانٍ. سَجَلَ موسى مزمورَهُ في العِقدِ الأخيرِ من حياتِه، وقد اختبرَ جوانب الحياةِ المختلفة. أوضحُ تلك الاختبارات أَتت به لملاحظتِهِ الواقعية عن الموت. فقد عَرَفَ عن قربٍ موتَ الكثيرين من أقاربِه وأصدقاءِه ومعارفِه وكثيرين آخرين. إستنتجَ موسى أن حياةَ البشرِ على الأرضِ هي بين السبعينِ والثمانينِ سنةً. وهذا هو واقعُنا اليوم أيضًا. إذن، إستنتاجُه لم يكُنْ استنتاجًا نظريًّا بل حياتيًّا وعمليًّا يقول:

أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ، لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعًا فَنَطِيرُ”. (مز90: 10)

يجب أن نُقِّرَ ونعترفَ بواقعيةِ إستنتاجِ موسى عن قِصَرِ الحياة البشرية. كان موسى على وعيٍ بأن أجسادَنا خُلِقَتْ من ترابِ الأرض. حياتنُا البيولوﭽية بدأت مع آدم، أبينا الأول، الذي صِيغَ جسدُهُ من تُراب الأرض ثم وهبَهُ الخالقُ نفسًا خالدة. في هذا المزمور، يُؤكدُ موسى على أن قِصَرِ الحياةِ البشرية يعودُ لفُقدانِنا الرضا والمسرةِ الإلهية. يقولُ في الأعدادِ السابع إلى التاسع:

“أَنَّنَا قَدْ فَنِينَا بِسَخَطِكَ وَبِغَضَبِكَ ارْتَعَبْنَا قَدْ جَعَلْتَ آثامَنَا أَمَامَكَ، خَفِيَّاتِنَا فِي ضَوْءِ وَجْهِكَ

لأنَّ كُلَّ أَيَّامِنَا قَدِ انْقَضَتْ بِرِجْزِكَ. أَفْنَيْنَا سِنِينَا كَقِصَّةٍ”. (مز90: 7-9)

كان الربُ قد كشفَ على يدِ نبيهِ الأمينِ موسى ما كان قد حدثَ مع أبوينا الأوليْن. فآدمُ وحواء كانا قد أُنذرا عن العاقبةِ الوخيمةِ لتمَرُدِهِما على الوصيةِ الإلهيةِ الطاهرةِ والحكيمةِ. حَذَّرَ الربُ آدمَ قائلًا:

 “موْتًا تَمُوتُ”.

وبالفعل إختبرَ آدمُ الموتَ الجسدي، وهذا هو اختبارُ كُلُ واحدٍ منا. نعم، كُلُنا نموتُ. مثلُنا كَمَثَلِ موسى ومَثَلِ أبينا الأولِ آدم. فنحن نعي تمامًا الطبيعةَ المؤقتة والبائدةَ لحياتِنا الأرضيةِ. كُلُنا نرثُ نَفسَ طبيعةِ الفسادِ المائتةِ التي تمتعَ بها آدم. لكنَ الأنباءَ الإلهيةَ السارةَ تُؤكدُ لنا بأن الخالقَ المُنعِمَ الرحيمَ لم يتخلى عنا. رسالةُ الإنجيلِ مُعزيةٌ ومُطمئِنة.

هكذا تصلُنا في الفصلِ الخامسِ من الرسالةِ إلى أهلِ رومية، التي تُؤكدُ لنا بأن المسيحَ، الذي هو آدمُ الجديد، أخذَ على نفسِهِ العقابَ الإلهيَّ العادلَ الذي نستحقه نحن. فمات موتَنا بالنيابةِ عنا.

 تقولُ الرسالةُ:

“اللهُ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ”. (رو5: 8، 9)

هذه هي الاستجابةُ الإلهيةُ لدعاءِ موسى في المزمور التسعين. فموسى شَهِدَ، بل عاينَ القدرةَ الإلهيةَ التي حررت العبرانيينَ من العبودية. تَعَرَفَ موسى بشكلٍ شخصيٍ على المحبةِ الإلهية والمبادرةِ الإلهية المُضحيةِ التي تَهَبُنا الحياةَ الجديدةَ والنُصرةَ على الموت. إِختُتِمَ المزمور التسعون بدعاءٍ مُباركٍ، يقول:

“إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ”. (مز90: 12)

بكلِ تأكيدٍ نحن بحاجةٍ لِفكرٍ وقلبٍ حكيم يعي الطبيعةَ القصيرةَ والبائدةَ لحياتنا البشرية. أيامُنا على الأرضِ معدودةٌ ومحدودة. نحتاجُ قَلْبَ حِكْمَةٍ. في المسيح الفادي، لنا ما نحتاجُه من الحكمةِ الإلهية، بل لنا أكثرُ كثيرًا من ذلك. في الفصل الأول من رسالةِ بولس لكنيسةِ كورنثوس يقول:

“وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً”. (1كو1: 30)

له كُلُ المجدِ.