أعظم من مُعلِّم
بقلم: أ. مايكل مجدي
المُعلِّم باللغة العربيَّة والأستاذ بالفارسيَّة، حتى “المِعلِم” بكسر الميم في العاميَّة، لقب لا يصل إليه إنسان إلا بشق الأنفس، بعد تعب وكد سنوات عديدة وتحت ملاحظة من مُعلِّمين أكبر وأكثر خبرة. فلا يُصبح المُعلِّم مُعلِّمًا قبل أن يكون هو نفسه تِلميذًا لمُعلِّمين سبقوه في طريق العلِّم. فمثلًا درجة الأُستاذيَّة في الأوساط الأكاديميَّة اليوم هي أعلى درجة علميَّة. فبعد الحصول درجة الماجستير وبعدها الدكتوراة يصبح الباحث مُدرسًا مساعدًا، ثم يقدم عدة أبحاث علميَّة متقدمة أخرى تحت إشراف أساتذة ليصبح مُدرسًا ثم يحصل في النهاية على لقب أُستاذ.
على الرغم من أنه في هذه الأيام في الشرق الأوسط فقد لقب المُعلِّم قدره ومكاناته بعض الشيء، فإذا سمعت اليوم شخص ينادي آخر “يا أُستاذ!” في أغلب الظن أنهما لا يعرفان بعضهما البعض. على عكس الحال من عقود قليلة مضت، إذ كان لقب عباس العقاد في الأدب ومحمد حسنين هيكل في الصحافة وفؤاد المهندس في التمثيل، هو لقب “الأُستاذ” دليلًا على علِّم كل واحد ومكانته وإبداعه كلٍ في مجاله.
وفي زمن المسيح كان هناك الكثير من المُعلِّمين، دارسين الناموس -أي الشريعة، كتب العهد القديم- ومفسرين له. وكان لهم الكثير من المُريدين والتابعين الذين كان يُطلق عليهم تلاميذ. وكان المُعلِّم منهم يفتخر معتزًا أنه تلميذًا لموسى (يوحنا ٩: ٢٨) حيث إنه أصبح مُعلِّمًا بعدما تتلمذ على كتابات موسى أي كتب التوراة. لذلك كانت تلك الفئة سواء كانوا من الفريسين أو من الكتبة هم قادة الشعب الروحيين، الفاهمين لنصوص الوحي المُقدَّس وشارحيه للعامة غير المُتعلِّمين. وبالطبع حصل المُعلِّمين على كل التقدير والكرامة والاحترام من الناس. فربما لو كنت تسير في شوارع اليهوديَّة آنذاك ورأيت مُعلِّمًا للناموس لرأيته يسير في زهو ووقار، الناس ينادونه يا مُعلِّم أو يا سيدي (اللفظ الأرامي: رباي أو ربوني)، وغالبًا ستراهم حتى يقبلون يديه.
لكن الغريب أن المسيح عندما بدأ خدمته جهارةً، بدى للناس شاب في الثلاثين من عمره، غير مُتعلِّم ولم يسبق له أن نال قسم من التلمذة على أيدي أحد مُعلِّمين زمانه. من بلدة صغيرة نائية هي الناصرة. حتى أن الناس عندما يسمعونه يُعلِّم يتعجبون قائلين: “من أين لهذا هذه الحكمة؟” (متى ١٣: ٥٤). وكلما ذهب إلى أي مكان تجمهر الناس حوله بالآلاف (لوقا ١٢: ١). يسمعون تعاليمه وينادونه “يا مُعلِّم”، وكثيرون منهم تبعوه ملازمين له مثلما كان يفعل تلاميذ أحد المُعلِّمين العظام. ويقول العقاد عن المسيح المُعلِّم في كتابه “حياة المسيح” ما يلي:
“بحق سمى المُعلِّم ونودى به في مختلف المجامع والمحافل، لأن مهمته الكبرى كانت مهمة تعليم وإحياء روحي حيوي من طريق التعليم… ناداه بهذا اللقب تلاميذه كما ناداه به خصومه ومن يستمعون له غير متتلمذين وغير مخاصمين. وكان نداؤهم له بهذا اللقب لأنهم يجدون في كلامه علمًا واسعًا بالكتب والأسفار، وبديهة حاضرة في الاستشهاد بها والتعقيب عليها”
أما بالنسبة لي، فأنا مغرم بالمسيح. ليس فقط كونه رئيس إيماننا ومكمله. لكن حتى في كل أبعاد شخصيته، سواء ما سما منها حد السماء وفاق إدراك عقولنا، أو ما بدى منها قريب منا وشبيه بإنسانيتنا الضائعة. فهو على كل وجه مبهر ويستحق التأمل مدة العمر، وما بعد العمر أيضًا!
لذلك، ما سأحاول دراسته في هذا البحث هو: ما هي أهم سمات شخصيَّة المسيح كمُعلِّم عظيم. شهد لتفرده وتميزه وحكمته أعدائه وتابعيه على السواء. وما هي أهم مميزات أسلوبه في التعليم، التي وإن اختلف الكثيرين من السامعين مع محتوى ما علِّم به، إلا أن ذلك لم يلغي كون طريقة المسيح كان لها طابع خاص جدًا، قلبت موازين التلمذة والتعليم السائد وقتها.
وما أرجوه من هذه الدراسة أن يكون التأمل في ذلك الجانب من شخصيَّة المسيح دافع لزيادة الانبهار والتبجيل والتمجيد للمسيح، الذي هو أعظم من مجرد مُعلِّم. وأن يكون نموذج يسوع المُعلِّم منهاج لكل شارح ومفسر ومُعلِّم لكلمة الله.
أعظم من مُعلِّم.
يقول نابليون بونابارت: “عرفت رجالًا كثيرين.. أُناسًا من كل نوع وشكل.. لكنني أقول لكم.. يسوع المسيح لم يكن إنسانًا عاديًا”
يسوع المسيح فريد من نوعه. جمع في شخصه كل صفات الإنسان الطبيعي، وظل في الوقت ذاته حامل كل ملئ الألوهة. وصف نفسه ابن الله وبرهن على ذلك. وفي نفس الوقت كان لقب ابن الإنسان هو الأقرب لفمه وقلبه. في نواح عديدة أقترب من البشريَّة إلى حد التماس بل والاقتران. لكنه في ذات اللحظة سمى عن الطبيعة البشريَّة سمو السماوات عن الأرض، كونه الله. كان إنسانًا عاديًا لكنه لم يكن إنسان فقط. كان نبيًا لكنه لم يكن مجرد نبي. كان قائدًا مؤثرًا ومُصلحًا للمجتمع لكنه لم يكن مجرد مُصلح. علِّم وفسر وشرح وصنع تلاميذ وتبعه مُريدين، لكنه لم يكن مجرد مُعلِّم.
لقد كان يسوع مُعلِّمًا في نظر فئات كثيرة تقابل معها. فنرى واحد من الكتبة يقول له “يا مُعلِّم أتبعك أينما تمضي” (متى ٨: ١٩). والكتبة كانوا نُسَّاخ التوراة وشاريحيها في نفس الوقت. فهم الأكثر قربًا لكلمة الله. كذلك الفريسين (يوحنا ٣: ١-٢) وإذ كان الفريسين هم أكثر الفئات بين اليهود التزامًا بتطبيق الناموس، اعتبروا أنفسهم الأكثر طهرًا وإنفرازًا من بين الشعب، واحتقروا الجميع. وأيضًا الصدوقيين (لوقا ٢٠: ٢٧, ٢٨) الذين كانوا الطبقة الأرستقراطيَّة المتحكمة في المناصب السياسيَّة العليا. أنكروا قيامة الأموات والأرواح والمعجزات ولم يعترفوا إلا بكتب موسى الخمسة فقط. كان مُعلِّمًا في نظر الأغنياء (لوقا ١٨: ١٨) وفي نظر الفقراء المعدمين والمنبوذين (لوقا ١٧: ١٢, ١٣) وبالطبع كان المُعلِّم في نظر تلاميذه الأقربين.
أيضًا شهد المسيح لنفسه أنه مُعلِّمًا. ففي حديثه المُشجع لتلاميذه بأنهم لابد أن يواجهوا اضطهادات ويُجدف عليهم مثلما فعل الناس بمُعلِّمهم قال لهم «ليس التِّلميذُ أفضَلَ مِنَ المُعَلِّمِ، ولا العَبدُ أفضَلَ مِنْ سيِّدِهِ. يَكفي التِّلميذَ أنْ يكونَ كمُعَلِّمِهِ، والعَبدَ كسَيِّدِهِ. إنْ كانوا قد لَقَّبوا رَبَّ البَيتِ بَعلَزَبولَ، فكمْ بالحَريِّ أهلَ بَيتِهِ!” (متى ١٠: ٢٤، ٢٥). وبذلك وصف نفسه أنه السيد والمُعلِّم ورب البيت، وتلاميذه هم خاصته عبيدًا وتلاميذ وأهل بيت. وفي مرة أخرى يحذر تلاميذه أن لا يسعوا لكي ينالوا تمجيدًا من الناس ملقبين أنفسهم بالسيد أو المُعلِّم، والسبب في ذلك هو أن مُعلِّمهم وسيدهم واحد وهو المسيح (متى ٢٣: ٨). وقبيل ذهاب يسوع للصليب في اللقاء الوداعي بينه وبين تلاميذه، وهو يريد أن يثبِّت مبدأ الاتضاع بين تلاميذه قال لهم: “فإنْ كُنتُ وأنا السَّيِّدُ والمُعَلِّمُ قد غَسَلتُ أرجُلكُمْ، فأنتُمْ يَجِبُ علَيكُمْ أنْ يَغسِلَ بَعضُكُمْ أرجُلَ بَعضٍ،” (يوحنا ١٣: ١٤). مقرًا بأنه بالحقيقة المُعلِّم والسيد. فيسوع كان مُعلِّمًا في نظر الناس وباعترافهم، وكذلك كان في نظر نفسه. ولا يعتبر ذلك درب من دروب الكبرياء. فالمتكبر يظن أنه يملك ما لا يمتلكه حقًا. لكن يسوع المسيح مُعلِّمًا، حقًا وصدقًا.
نتقدم الآن خطوة التي تبدأ عندها صورة المُعلِّم تنفصل عما سواها من صور المُعلِّمين. ويتضح الفارق والهوة بين المُعلِّمين والمُعلِّم. فدائمًا كانت تعاليم المسيح مدعاة للتعجب ودهشة الناس. إما تعجب الاستنفار أو تعجب الانبهار. لقد كانت تعاليم مختلفة بل وواضحة الاختلاف. فقد لمس الناس أنه ليس كالباقين. تخطت كلماته حد الوصايا النظريَّة الجوفاء، وفقط شرح كتب العهد القديم. فمثلًا أسلوبه وصف بأن له سلطان وليس كالكتبة (متى ٧: ٣٩) فالناس سمعت الكتبة وسمعت شروحاتهم وتفسيراتهم واجتهاداتهم في الإقناع. إلا أن كلام يسوع له من التميُّز كمن له سلطان السيادة وسط الخاضعين. -وسيأتي الكلام أكثر عن هذا فيما بعد-. وحين أرسل الخدام من قبل رؤساء اليهود ليقبضوا على المسيح، سمعوه وهو يُعلِّم في الهيكل، رجعوا بانطباعهم لمرسليهم عن يسوع قائلين: «لم يتَكلَّمْ قَطُّ إنسانٌ هكذا مِثلَ هذا الإنسانِ!» (يوحنا٧: ٤٦). أيضًا رأى التلاميذ في تعاليم المسيح ليس مجرد كلام، لكنه كلام الحياة الأبديَّة (يوحنا ٦: ٦٨)
على الرغم من أن طفولة يسوع كانت طفولة صبي يهودي عادي. يذهب لحضور المجمع كل سبت، يسمع كلمة الله مقروءة ومشروحة. ويذهب كل عيد مع عائلته إلى أورشليم حيث الهيكل والكهنة وحلقات الدرس حول كل مُعلِّم من مُعلِّمين أورشليم. إن المرة الوحيدة التي يسجل لنا البشيرين عن حدث في فترة شباب المسيح المبكرة هي تلك المناسبة عندما كان في الهيكل في الثانية عشر من عمره. إذ أكتشف أبواه غيابه وقت العودة، بحثا عنه ووجداه في أروقة الهيكل، جالسًا وسط المُعلِّمين، مستمعًا لهم ويسألهم (لوقا ٢: ٤٦). وإذ أنبهر كل من سمع أسئلته وفهمه وأجوبته، أي تجاوبه مع ما فهمه، كطفل نابغة نقي الذهن شديد الاستيعاب والتحليل والفهم. لكن مع كل هذا كان طفلًا عاديًا نال ما ناله أي فتى يهودي من أترابه في تلك الطبقة الفقيرة من الشعب لا أكثر! وهذا ما أثار دهشة الناس عندما بدأ المسيح خدمته العلنيَّة في الثلاثين من العمر. كلما قارنوا نشأة المسيح المتواضعة، وما ناله من حظ في التعليم -أو بالأدق ما لم ينله- وما يُعلِّم به كانوا يستغربون، كيف أن يكون هذا! فنحن نعرف أصله وفصله، نعرف أمه وأبوه، نعرف بيته وقريته وحالته الاجتماعيَّة، هذا الشاب النجار الحرفي غير المُتعلِّم. من أين له كل هذا الفهم والعلِّم بالكتب. كيف له القدرة على تفسير نصوص العهد القديم وربطها ببعض، وكثيرًا ما شرحها بعمق وسلطان فاق كل الشارحين، مضيفًا لها أبعاد لم يسمعها الناس من قبل، مثلما فعل في التعليم الشهير بالموعظة على الجبل (متى ٥-٧).
من المرات التي كان المسيح يُعلِّم فيها جهرًا في الهيكل، وأحاط به جمهور كثير من الشعب. تعجب اليهود وسألوه مباشرة متهكمين «كيفَ هذا يَعرِفُ الكُتُبَ، وهو لم يتَعَلَّمْ؟» (يوحنا ٧: ١٥)، وبالطبع تلك كانت سخريَّة من اليهود، باطنها يقول: كيف لأمثالك من العامة والغير المُتعلِّمين أن يضع نفسه وسط صفوف المُعلِّمين!؟ وهذه عادة البشر عامةً، واليهود خاصةً، وقادة اليهود بأكثر خصوصيَّة. الحكم على قدر الإنسان من الخارج، مما ظهر منه. أما رد المسيح فكان هكذا: صحيح لم أتعلِّم، لم أكن تلميذ سابق لأحد عظماء المُعلِّمين، لكن “تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني” أي أن مصدر ما أقوله من شخص معين قال لي ما أقوله مرسل. وهذا الشخص الذي علِّمه وأرسله يقول المسيح عنه أنه أبوه (يوحنا ٨: ٢٨) وفي مناسبة أخرى يقولها المسيح بشكل أخر لتلاميذه. كان يشرح لهم أسبابه عن لماذا لا أعود أصف العلاقة بيني وبينكم كعلاقة السيد بالعبد، لكنها علاقة الأحباء فيما بعد. لماذا؟ “لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي”. (يوحنا ١٥: ١٥)
فما أعلنه المسيح مرات عديدة عن مصدر الرسالة التي يحملها للشعب، لكل من له أذان للسمع: هو أنه كان موجودًا قبلما يولد مع أبوه، والآب أسمعه كلام، وأرسله إلى العالم لينقله للناس. فهو لم يبدأ كينونته عندما ولد. إذ كان موجودًا قبلها عند الآب. فهو من فوق وأَتى للأسفل. وهذا بحصر التعبير الذي قاله يوحنا المعمدان عنه: “الّذي يأتي مِنْ فوقُ هو فوقَ الجميعِ، والّذي مِنَ الأرضِ هو أرضيٌّ، ومِنَ الأرضِ يتَكلَّمُ. الّذي يأتي مِنَ السماءِ هو فوقَ الجميعِ، وما رآهُ وسَمِعَهُ بهِ يَشهَدُ، وشَهادَتُهُ ليس أحَدٌ يَقبَلُها” (يوحنا ٣: ٣١، ٣٢). يوحنا فهم أن أصل المسيح ليس كأصل باقي البشر، من تراب الأرض، من أسفل. لكنه من فوق، عكس البشر من الأرض من تحت. وهو إذا كان فوق، في حضن الآب خبر بما سمعه (يوحنا ١: ١٨) وهذا الخبر والمعرفة التي تسلمها الابن من الآب وعن الآب، لا يقدر أحد أن يعرفها ويصل إليها إنسان مهما كان قدر معرفته بالكتب. فهي معرفة حصريَّة للابن ومن أراد الابن أن يعلن له. “كُلُّ شَيءٍ قد دُفِعَ إلَيَّ مِنْ أبي، وليس أحَدٌ يَعرِفُ الِابنَ إلّا الآبُ، ولا أحَدٌ يَعرِفُ الآبَ إلّا الِابنُ ومَنْ أرادَ الِابنُ أنْ يُعلِنَ لهُ.” (متى ١١: ٢٧)
فالمسيح علِّم بأنه تَسلَّم ما يُعلِّم به قبل ميلاده، وهو في حضن الآب، وجاء إلى الأرض ليعلن ما هو في السماء. لكن المسيح لم يقف عند هذا الحد. صحيح أن كثيرًا ما كرر المسيح “الحق الحق أقول لكم” فإن كل ما قاله المسيح هو الحق. لكن المسيح قال إنه هو بذاته الحق (يوحنا ١٤: ٦) لم يكن فقط حامل الحق، أو ناقل الحق، لكنه هو نفسه الحق. منبعه ومصدره. فطبيعي أن نرى مُعلِّمًا متمكنًا واثقًا من نفسه يزعم بل وربما يؤكد أن ما يقوله حق. لكن لا نرى مُعلِّمًا يقول عن نفسه أنه الحق ذاته! فلا يقدر أحد غير الله حصرًا ومنعًا، أن يدعي أنه هو الحق. وهذا ما أكده المسيح لسامعيه لربما ظنوا أنه غير واعي بما يرمي إليه: “لو كنتُم قد عَرَفتُموني لَعَرَفتُمْ أبي أيضًا. ومِنَ الآنَ تعرِفونَهُ وقَدْ رأيتُموهُ». قالَ لهُ فيلُبُّسُ: «يا سيِّدُ، أرِنا الآبَ وكفانا». قالَ لهُ يَسوعُ: «أنا معكُمْ زَمانًا هذِهِ مُدَّتُهُ ولَمْ تعرِفني يا فيلُبُّسُ! الّذي رآني فقد رأى الآبَ، فكيفَ تقولُ أنتَ: أرِنا الآبَ؟” (يوحنا ١٤: ٧- ٩). نعم يا فيلبس إن ما فهمته مني هو ما قصدت أن أقوله، أنا الحق ومن يعرفني يعرف الله الآب الحق، ومن رآني رأى الآب، فالآب حال فيَّ (ع ١٠). فالمسيح قام بدور الرسول لأنه أُرسِل برسالة من قِبل الله. لكنه أعظم من رسول، لأنه أزلي الوجود قبل إرساله. وهو الرسالة نفسها. كل رسول تقبل كلام من الله لينقله للناس. لكن المسيح هو كلمة الله ذاته (يوحنا ١: ١-٥)
كل الأنبياء والرسل والمُعلِّمين كانت رسالتهم بشكل جوهري هو أن يلفتوا نظر الناس إلى بؤسهم في الخطيَّة، ويدعونهم للتوبة والالتزام في عبادة الله والإيمان بكلامه. فمثلًا تلخصت رسالة يوحنا المعمدان -وهو ممثل لكل نبوة العهد القديم- “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله.” معنى ذلك أن يترك كل إنسان خطاياه ويعترف بها ليكون معدًا لاستقبال الملكوت الآتي. وكثيرون فعلوا ما فعله يوحنا ربما على نطاق أصغر أو أكبر. فكل منهم أشار إلى رجوع الناس إما إلى الله أو إلى كلمته. وهذا الدور قام به المسيح بالطبع، فكثيرًا ما كرز المسيح هو أيضًا توبوا وارجعوا عن خطاياكم. لكن ما يثير الدهشة، أن المسيح عندما دعا الناس للتوبة والرجوع والإيمان، لم يرفع أصبعه ليشير إلى السماء إلى حيث ينبغي عليكم المسير قدمًا، أي إلى الله الساكن في السماء. بل أشار إلى ذاته. حتى يوحنا المعمدان عندما رأى يسوع رفع أصبعه وأشار إليه وقال إلى هذا ينبغي أن تذهبوا لتنالوا تطهيرًا حقيقًا لخطاياكم: «هوذا حَمَلُ اللهِ الّذي يَرفَعُ خَطيَّةَ العالَمِ!” (يوحنا ١: ٢٩). فالخطاة في تيه سائرين في طريق الموت والهلاك، لم يقل المسيح فقط أريكم طريق للعودة إلى الله، قال “أنا الطريق”. ولم يقل فقط للأموات بالذنوب والخطايا أرشدكم إلى ينبوع الحياة، قال “أنا الحياة”. وأيضًا في مشهد إقامة لعازر لم يقل فقط أنا مزمع أن أقيم الميت، قال “أنا القيامة” و “كل من آمن بي وهو حي لن يرى الموت”. وإن كان الخطاة يسيرون في الظلمة وظلال الموت، أشار إلى نفسه أنه هو ذاته “النور الحقيقي”. وحيث إن الخطاة في حالة جوع وعطش روحي مستمر، قال عن نفسه “أنا الخبز الحقيقي الواهب حياة للناس”. إذًا المسيح هو الوحيد الذي قال أنا نفسي الحل: “مَنْ يأكُلُ جَسَدي ويَشرَبُ دَمي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الأخيرِ” (يوحنا ٦: ٥٤). وهذا دعى الناس إلى النفور مما يقوله: «كيفَ يَقدِرُ هذا أنْ يُعطيَنا جَسَدَهُ لنأكُلَ؟» (ع٥٢). فقد كان أمام كل من سمع تعاليم المسيح خياران: إما أن هذا الإنسان مجنون. لا يعي أبعاد ما يقوله، أو عنده داء الشعور بالعظمة. وإما أن يؤمنوا أنه بالحقيقة ما يقوله عن نفسه. عن هذا قال القديس أوغسطينوس: “لقد قرأت في أقوال أفلاطون وشيشرون أقوالًا حكيمة جدًا وجميلة جدًا، ولكن لم أقرأ في أي منهما: “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال”.
يسوع المسيح المُعلِّم العظيم، أعظم من مُعلِّم. عاش يُعلِّم الناس من نبعه الخاص. تكلم كثيرًا، لكنه أعظم من مُتكلم. هو كلمة الله ذاته. الحكمة ذاتها. فالمسيح يسمو على التعليم، سمو العقل على الفكرة، وسمو الأصل على الصورة. أُصلي أن يفتح الله عين ذهني وقلبي لأرى هذا النور الساطع من مجد المسيح. وما أصليه لنفسي أصليه لك أيضًا يا من تقرأ هذا الكلام.