الرجل رأس المرأة
أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ. وَلكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. (أفسس ٥: ٢٢-٢٤)
نعيش في زمن خاص جدًا فيما يتعلق بالرجولة والأنوثة. ما كنا نتصوره بديهيات في أوقات كثيرة تحول ليكون – بحسب البعض – تعبيرًا عن الرجعية بل والهمجية. على سبيل المثال، هل دور المبادرة يقع دائمًا على عاتق الرجل أم أن هذا لم يعد ضروريًا الآن؟ يرى البعض أنه لا فرق بين الرجل والمرأة يجعل المبادرة متوقعة من أحدهم دون الآخر. من ناحية أكثر عملية، هل مازال الرجل هو المسئول الأول عن تسديد احتياجات بيته وحمايته أم أن هذا الأمر يعتمد الآن على إمكانية الأطراف بغض النظر عن كون هذا الطرف ذكر أو أنثى؟ هل القيادة والرئاسة في العلاقة الزوجية أمر تبادلي؟ هل يمكننا أن نقول مع الرسول بولس: الرجل هو رأس المرأة؟
بالرجوع للنص الموجود في (أفسس ٥: ٢٢-٢٤) نجد أن الرسول بولس لا يتفق مع أي ادعاء بأن هذه الأدوار يمكن أن تُعكس، أي أن المرأة يمكن أن تكون رأس الرجل. وذلك لسبب قد أورده في هذا النص، وهو أنه قارن بين علاقة المرأة والرجل وبين علاقة المسيح والكنيسة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة هي صورة لعلاقة أعمق وأسمى بين المسيح وكنيسته “مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدً. هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ” (أفسس ٥: ٣١-٣٢). والعلاقة بين المسيح والكنيسة غير قابلة للانعكاس، أي أننا لا يمكن أن نقول ليس هناك فرق إن كان المسيح رأس الكنيسة أو الكنيسة رأس المسيح. لا يوجد شكل آخر لهذا العلاقة. كذلك أيضًا العلاقة بين الرجل والمرأة لها شكل واحد فقط: الرجل رأس المرأة.
معنى كلمة رأس؟
لكن يقول البعض أنهم لا يعترضون على كلام الكتاب فيما يتعلق بكون الرجل رأس المرأة، ولكن كلمة “رأس” بحسبهم لا تتعلق بالرئاسة أو السلطة وإنما بالبداية أو المصدر. الكلمة اليونانية هي “كيفالة” κεφαλὴ وهي التي يمكن أن تترجم “رأس” أو “مصدر” أو “بداية”. ولأن الكلمة يمكن أن تترجم مصدر أو بداية، يرى أصحاب هذا الرأي أن كون الرجل رأس المرأة لا يتعلق برئاسة أو سلطان أو دور مختلف يتميز به الرجل عن المرأة. لكن المقصود بكلمة “رأس” هو أن الرجل هو مصدر المرأة أي أنها خُلقت منه، وهو بداية حياة المرأة على الأرض، وبالنسبة للمسيح فهو رأس الكنيسة بمعنى أنه بداية حياة الكنيسة على الأرض. من النصوص المستخدمة لتأييد هذا الرأي هو (مزمور ١١١: ١٠) ” رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ” أي أن بداية الحكمة هي مخافة الله.
ومع أنه لغويًا يمكن أن تُترجم الكلمة بمعنى مصدر أو بداية ولكن هل هذه هي الترجمة الأدق والأنسب للنص الموجود في أفسس ٥؟ لا أعتقد ذلك! وهذا لعدة أسباب:
النص نفسه في أفسس ٥: ٢٢-٢٤ لا يتكلم فقط عن فكرة الرئاسة ولكنه يتكلم أيضًا عن الخضوع، سواء خضوع المرأة للرجل أو خضوع الكنيسة للمسيح. هل فكرة الخضوع تتناسب أكثر مع فهم كلمة “رأس” على أنها مصدر أم على أنها تشير إلى رئاسة أو سلطان؟ لا معنى لفكرة الخضوع إذا فسرنا كلمة “رأس” على أنها تشير للبداية أو المصدر. في الواقع، لا يمكن فهم كلمة الخضوع بمعزل عن الرئاسة والسلطان.
الأمر لا يتعلق بالخضوع فقط في أفسس ٥ ولكن أيضًا بتسديد الاحتياجات والرعاية. فالمسيح هو من يقوت الكنيسة كما أن الرجل هو المسئول عن رعاية المرأة وتسديد احتياجاتها. وهنا نرى ربط بين الرئاسة والمسئولية.
يقول اللاهوتي واين جرودم أن كلمة “رأس” في الأدب اليوناني القديم من القرن الثامن قبل الميلاد وحتى آباء الكنيسة في القرن الرابع غالبًا ما كانت تستخدم للإشارة إلى أناس في سلطة. ويضيف جرودم بأنه لا يوجد أي نص يوناني قديم قيل فيه عن شخص بأنه رأس لآخر أو لمجموعة ما ولم يكن هذا الشخص في موضع سلطان فوق هذا الآخر أو هذه المجموعة.[1] لم تستخدم هذه الكلمة فيما يتعلق بعلاقة أشخاص ببعضهم البعض وكان المعنى يتعلق بشيء غير السلطة.
تستخدم الترجمة السبعينية – وهي الترجمة اليونانية للعهد القديم – كلمة “رأس” أو “كيفالة” فيما يتعلق بالأشخاص استخدام مرتبط بالسلطة أو الرئاسة في العديد من المواضع مثل الإشارة إلى داود بصفته رأس الشعوب (٢ صم ٢٢: ٤٤)، ورؤساء الأسباط في إسرائيل أخذوا نفس اللقب (١ مل ٨: ١)، وأطلق على يفتاح بأنه صار رأسًا وقائدًا (قضاة ١١: ١١)، كما استخدمت هذه الكلمة عن الملوك الأشرار مثل فقح بن رمليا الذي قيل عنه أنه رأس السامرة (إشعياء ٧: ٩).
هل يمكن أن تقتصر رئاسة المسيح للكنيسة على كونه مصدرها فقط؟ هل المسيح له سلطان على الكنيسة أم لا؟ يؤكد العهد الجديد بوضوح على سلطان المسيح على الكنيسة، فهو من يقودها ويقوتها بكلمته وبروحه وهو من يعين قادتها وهو من يحميها من أعدائها. بالطبع رئاسة المسيح للكنيسة لا تعني فقط التسلط وإنما الخدمة الباذلة بل والموت لأجلها. إن الرئاسة بمعنى السيادة لا يجب أن تُفهم في نوع من التضاد مع حقيقة بذل الذات في الخدمة. عندما غسل المسيح أرجل التلاميذ كان يصور لنا نموذجًا واضحًا للخدمة وإكرام الآخر. إن سألت أي من التلاميذ وقتها عن مكانة المسيح لم يكن ليتردد أحدهم في التأكيد على أن المسيح هو القائد حتى وهو يفعل هذا. والمسيح نفسه أكد على رئاسته وسيادته عليهم قائلا: “فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ” (يوحنا ١٣: ١٤). لا يوجد تعارض بين السلطان والخدمة الباذلة. هل نتوقع من الرجل والمرأة أن يخدما بعضهم البعض وأن يبذلا أنفسهما من أجل بعض؟ بالتأكيد نعم، لكن هذا لا يتعارض مع الترتيب في القيادة والرئاسة.
إن التمسّك بفكرة رئاسة الرجل على المرأة هو أمر لا ينم بالضرورة على القسوة والسلطة القاهرة. هذا الشكل من الرئاسة الطاغية هو الذي أنتجته الخطية. فالسقوط لم ينتج الترتيب في العلاقة بين الرجل والمرأة وإنما أفسد شكل هذا الترتيب. فصارت قيادة الرجل ليست باذلة ولا حامية ولا محبة وإنما قاهرة قاسية أو على النقيض منسحبة هاربة. لكن في المسيح تُسترد هذه العلاقات في شكلها الأمثل لتكون خير تعبير عن علاقة المسيح بالكنيسة. كما يقول جون بيبر إن رئاسة الرجل بالمرأة يجب أن تكون رئاسة رجل له قلب الأسد ووداعة الحمل. وقد أختار بيبر الأسد والحمل لأنهما التشبيهان اللذان أُطلقا على المسيح نفسه (رؤيا ٥: ٥-٦).[2]وكما أن المسيح هو الأسد الخارج من سبط يهوذا وهو كذلك حمل الله الذي مات لأجل خطية كنيسته، كذلك يجب على الرجال أن يكونوا أسودًا في الدفاع عن زوجاتهم، مبادرين في العلاقة، أقوياء لأجلهن وليس عليهن. ويكونوا حملان في بذل ذواتهم لأجلهن محبين إياهن كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها.