نظامٌ عالميٌ جديد
أتى الحكماء المجوس من المشرق وكان نجمُ الكريسماس يقودُهم حتى وصلوا لموضعِ ميلادِ يسوع في بيتِ لحم. وإذ سجدوا لملك الملوك قدموا له ثلاثَ هدايا رمزيَّة. وسوف نتأمل في تلك الهدايا الرمزيَّة بعد القراءة الإنجيلية من متى 2: 7-12:
“حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ: اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ. فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ”.
ميلادُ يسوع الذي أعلنَ عنه الملاكُ لرعاةٍ بُسطاء، هو بشارةُ الفرحِ العظيمِ لجميعِ البشر. تبعت تلك البشارة تسبحةُ جمهورِ الملائكةِ قائلين: “الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ” (لو 2: 14).
الرسالةُ لم تُوَجَّه لقادة الدين ولا السياسة بين اليهود. وُجِّهَت لرعاةٍ بسطاء. مريم ويوسُف أيضًا كانا مؤمنيْن بسيطيْن، شأنُهُما كشأنِ الرعاة وسمعان وحنا الذين كانوا بكل بساطة ينتظرون تحقيقَ الوعدِ الإلهي بمجيء المسيَّا الموعود. رجاءُهم لم يكن في مملكةٍ أو سُلطةٍ أرضيةٍ. شوقُهم كان لرؤية المُخَلِّص الإلهي الذي يأتي بالبركة لكل ِالشعوب كنسلِ إبراهيم الموعود. ومع أن مجيءَ يسوع كان عبَر خطِ داودِ المُلوكي فهو كملكِ الملوك وُلِدَ ولادةً مُتضعة للغاية وعاش حياةً بسيطةً جداً تَتَسِمُ بالخدمةِ وعطاءِ النفسِ للأخرين.
النص في متى 2 يؤكدُ أن القادة الدينيين وأصحاب المعرفة الأكاديمية اليهود لم يُعيروا اهتمامًا بالخبر الذي أعلنه الحكماء الغرباء الذين أتوا من بعيد وهُم يتبعون نجمَ الكريسماس. لكن أولئك الحكماء المشرقيين كرسوا معرفتَهم عن النجوم وعن حركاتِها للتحقُّقِ من طبيعة نجم الكريسماس الذي ظهر لهم. شأنُهم كشأن الكثيرين من الفُرس وآخرين كثيرين، كانوا على علمٍ بوعد إله إسرائيل بالبركة لكل الشعوب والأمم عن طريق مُخططه في نسل إبراهيم ونسل داود. كانوا على علمٍ بأن مُخطط الرب لم يكن موجهًا فقط للشعب العبراني أو العِرق اليهودي. الأسلوب الذي تحقق به الوعدُ الإلهي لم يستخدِم لا الأغنياء ولا الأقوياء، استخدم الربُ أولئك الذين توجهت أذهانُهم لمراقبةِ العلامات التي تُشيرُ لوقتِ ومكانِ وكيفية تحقيق الرب لبركته الكونية الموعودة. قلوبُهم اشتاقت للمبادرة الإلهية التي تأتي بالبركة لجميعِ البشر. ثِقتُهم لم تكن في أمجادٍ أرضيةٍ زائلةٍ ولكن في تحقيقِ الرب لإنقاذِ البشرية الفاسدة الضالة المضطربة وإرجاعِها لحالةِ الشَرِكَة مع الرب المُنعم الخالق.
الهدايا الثلاث التي قدمها الحكماء الغرباء تحدثت عن المأمورية الكاملة الشاملة لوليد العذراء مريم. إنها مأموريةٌ كونيةٌ كان من شأنها أن تُغير العالم ووجهة التاريخ بشكلٍ كامل.
من جهةٍ، أشارت هديةُ الذهب لميلادِ ملك اليهود، لكن مجيئَه بالنسبة لأولئك الحكماء الغرباء شكلَ سُلطةً روحانيةً في مملكةٍ مُتسعة الأطراف تشملُهم كما تشملُ كلَ البشر. هديةُ الذهب أشارت للاعتراف بملوكية يسوع عليهم كما على الجميع.
هدية اللُّبان مثلت فهمَ حكماء المشرق لنبوات العهد القديم التي وعدت بملكٍ يوفرُ قربانًا إلهيًّا في نفسه يعالجُ معضلةَ الخطية. المسيَّا الملك جاءَ ليهدمَ حائط العداوة بين الإله القدوس والبشرية الساقطة التي انفصلت عنه بتمردِ أبوينا الأوليْن. هِبَةُ اللُّبان مثلت الهوية الكهنوتية للمسيَّا الموعود فهو جاءَ ليهبَ نفسه كالذبيحةِ التي تكفرُ عن خطايا المؤمنين. بمعنىٍ آخر لدينا هنا الكاهن الأعظم الذي قدم نفسه بنفسِه كالكهنوت القاطع الفعَّال الذي فتحَ الطريقَ لكل المؤمنين لأن يتقدموا به وتقبلهم السماء بسببِ طهارة دمه. هكذا جاء وليد العذراء مريم ليؤسسَ الكهنوت لكل من يثقون به، فكلُ مَن يمارسون الصلاةَ باسمه يتمتعونَ بحقِ الدخولِ عبر باب السماء الذي فتحه لهم بموته الكفاري على الصليب.
وإذا ننظر لهبة المُر علينا أن نتذكر بأنها مثلت النبوة الكاملة الشاملة التي تجسدت في يسوع. هو جاءَ ليحققَ الحضور الإلهي الكامل الوضوح بين البشر. تألم وهو يعيشُ حياةً مُطلقة الطُهرِ والنصرةِ على الخطية، كما قدم تعاليمًا سماويةً سموُها لا يُقارن به تعليمٌ بشري. هكذا أسس يسوع لعالمنا دستورًا سماوياً لمواطنيةٍ كونيةٍ وبشريةٍ جديدةٍ بين كل الأمم.
إخوتي وأخواتي في المسيح، كل ذلك ينعكسُ في رسالةِ الإنجيل. يسوع هو آدم الجديد. عالمُ آدم الساقط هو عالمُ الحروب والفساد والدمار والظلم والأنانية والألم والمرض والموت. كلُ أنظمة التدين والسياسة وكلُ معارفِ البشر جذورُها فاسدةٌ ومُفسِدة لأنها تنبع من حالة البشرية الساقطة.
آدم الجديد وُلِدَ في يوم الكريسماس وأتى بنظامٍ عالميٍ جديد ليؤسسَ إنسانيةً جديدة. هذا لا يُمكن أن يتحقق لا بالأنظمة الدينية ولا السياسية ولا الأيديولوﭼية. جاء يسوع ليقضيَّ ويحكم ليس بقوةٍ عسكريةٍ أو اقتصادية. لكنه أسسَ في نفسِه وبنفسِه العدالةَ الإلهية التي تُرضي السماء وتقضي تمامًا على حالة العداوة بين البشر وبين الأممُ التي تلتصقُ بخدمته الطاهرة والمعطاءة. هذا هو النظامُ العالمي الجديد الذي أسسه ملكٌ جاء من السماء. هو يهزمُ وينتصرُ في المعركة الروحية ضد الشر والشرير عن طريقِ المحبة التي وهَبَ نفسه بها. هو جاءَ ليخدُمَ ويهبَ نفسه كالفديةِ عن الكثيرين الذين يلتصقون به في إيمانٍ صادق. سُلطتهُ هي في العطاء.
في يسوع لا يوجد لا شرقٌ ولا غربٌ لا شمالٌ ولا جنوبٌ، لا صغيرٌ ولا كبيرٌ لا عظيمٌ ولا متضعٌ، لا عبدٌ ولا حُر،ٌ لا ذكرٌ ولا أنثى. إنه ملكُ الملوك الذي بنعمته يواصلُ تأسيسَ نظامٍ عالميٍ جديدٍ للعدالةِ والحقِ والسلام. هو يجمعُ البشريةَ الجديدة. بمحبتهِ وعطاءهِ لنفسه فديةً للضالين.
نظامُ يسوع العالمي الجديد ينتهرُ ويتحدى بل يُلغي تمامًا فشلَ التدينِ الزائف والسياسةِ الأنانية المُضللة. مُلكهُ هو مُلكُ المحبة والعدل والسلام. هللويا.