ميلادُ يسوعِ العذراوي
في وقت احتفالات الكريسماس مهمٌ أن نفهمَ معنى ميلادِ المسيح العذراوي في المخطط الإلهي لخلاصِ البشرية.
منذُ مطلعِ تاريخ البشرية مُعضلة وجوديَّة وقعت، هدَّدت وجودَ البشرية نفسها. البشرُ صيغوا منذ البداية على طبيعةٍ فريدة تأتي بهم لعلاقةٍ فريدة مع خالقهم.
اختار البار المبارك أن يخِلقَ الإنسان كمخلوقٍ خاص، من نوعيةٍ مختلفةٍ عن باقي المخلوقات. حتى عمليةُ خلقه كانت تختلفُ عن عمليةِ خلقِ باقي المخلوقات. بِنَفخَةٍ إلهيَّة وُهِبَ الإنسانُ نفسًا خالدة. هكذا هو وحدُه يتمتع بالصورةِ الإلهيَّة والطبيعة الروحانية التي ربطته بالخالق بالذات. هذا الارتباط الخاص كُسِرَت أوصالُه عندما نجح الشريرُ في قيادةِ أبوينا الأوليْن للشكِ في مقاصدِ الرب وفي صدقِ تعليماتِه. هكذا فَسدت النفسُ البشرية. وفسادُها لا يمكن إصلاحُه. بل هي في حاجةٍ لإعادة خلقٍ من جديد. هذا الأمُر يُشَكِّل في الواقع قلبَ عقيدة ميلاد يسوع العذراوي.
في مطلعِ العهدِ الجديد نقرأُ عن تحقيقِ سنواتٍ طويلةٍ من الوعود الإلهيَّة التحضيرية في العهد القديم. بعدما دعى الربُ إبراهيم كخطوةٍ بدائية لتحقيقِ وعوده، مرَّت ثلاث قوائم من أربعة عشر جيلًا عبر عدة قُرون، أُسست خلالها الأمةُ ونُقيت وأُدِبَت لتحتفظَ بخطِ الملكِ داود، ذلك الخطُ يقودُ في نهاية الأمر لمجيء المسيح. نقرأُ في الفصل الأول من بشارة متى الإنجيلية:
“فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلًا. وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلًا. وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلًا. أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا. لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ. هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ اَللهُ مَعَنَا” (مت 1: 17-23).
دعونا نلاحظُ التصريح المفتاحي في العدديْن 22، 23: “وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ. هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ اَللهُ مَعَنَا“.
هنا اقتباسٌ من الفصل السابع من كتاب إشعياء في العهد القديم. تلك النبوة أُعلِنَ عنها حوالي سبعةَ قرونٍ قبل ما سجله البشير متى. كان ذلك في وقت انهيار الأمة/المملكة في العهد القديم. في ذلك اليوم اشتاق الشعبُ للحفاظ بمملكتهم وتَمَنوا تدخلًا إلهيًّا يوقف زحف البابليين ضد المملكة. لكن رد فعل الرب عن طريق النبيين إشعياء وميخا لم يكن بوعدٍ عن خلاصٍ أرضيٍ أو عسكري، بل قدمَ تأكيداتٍ على نوعٍ أخر من التدخلِ الإلهي. الوعدُ كانت أبعادُهُ أوسع جدًّا من مجرد الاحتفاظ بمملكةٍ أرضيةٍ فاسدةٍ في طريقها للزوال. أكد الرب من جديد أنه لم يتخلى عن مخططه لخلاص النفس البشرية. وَعَدَ بتدخلٍ مباشرٍ وقدم اسمًا عبرانيًّا هو “عمانوئيل”. الاسم يعني “الله معنا”. بكلماتٍ أخرى، كان وعدُ الربِ بأنه هو أنه سيتدخلُ بشكلٍ واضحٍ وجلي. هذا يُشَكِّل قلب رسالة الكريسماس.
يوسُف خطيبُ مريم حَقَّ له أن يقلقَ عندما سمع بِحَبَل عروسه الذي لم يكن هو له أيَ علاقةٍ به. يوسف كان رجلًا صالحًا وطيبًا، أَحَبَ خطيبته ولم يشأ أن يُسيءَ لسُمعتها. وإذ هو يتَفكَرُ فيما يجب أن يعمَلَهُ، أتتهُ رسالةٌ سماويةٌ في حُلمٍ عن طريقِ ملاك، وكانت الرسالة أكثر جدًّا من مجرد طمأنةٍ عن براءة مريم.
عَرَّف الملاك يوسُفَ على أنه هو ابنُ داود. هذا مهمٌ على ضوءِ السجلِ الطويل الذي سبق ما سُجِل عن الحُلم وحديث الملاك. ذلك هو سجلٌ مُفَصَّلٌ عن علاقةِ يوسف ومريم بالخط الإبراهيمي. هما انتسبا لخط نسل الملك داود. والملك داود كان قد وُعِدَ بمملكةٍ أبديةٍ باقية. يوسُفُ بدورهِ، كأحد الكثيرين من اليهود الأتقياء، وثَقَ بالوعودِ الإلهيَّة. لذلك فكلمات الملاك كانت مطمئنة جدًّا وجعلته يتفكرُ بعمقٍ كثير. عرف يوسف نصوص نبوات العهد القديم. هناك وعد الربُ بشكلٍ متكرر عن قدومِ المُخَلِّص الملك من خط إبراهيم عبر نسل داود.
في الحُلم، أكدت كلماتُ الملاك ليوسُف براءةَ خطيبته مريم كما أكدت له أنها مازالت عذراء بالرغم من حَبَلِهَا. عن طريق عمل الروح القدس، حمَلَت طفلًا بدون أيِ علاقةٍ بالبشر. هذا وقد كانت كلمةُ الرب في العهد القديم أكدت على ذلك. ويوسف كان على علمٍ بقدوم المسيَّا الموعود. في الفصل الثالث من كتاب التكوين التوراتي والعدد الخامس عشر وعد الرب بنسلِ امرأةٍ يقومُ بنقضِ نتيجة تجربة الشيطان التي أفسدت نفسيّ آدم وحواء. الخطيةُ احتاجت لحلٍ. والحلُ تطلبَ شخصًا جديدًا يولدُ من امرأةٍ بدون أي علاقةٍ برجْل. هكذا انفتحت عينا يوسف وبدأ يفهمُ الأمورَ على نصابِها.
يوسف، شأنه شأن مؤمنين آخرين في أيامه، كان على معرفةٍ بالكثير من وعود العهد القديم عن مجيء المسيَّا الإلهي. كلمات الملاك ذَكَّرتهُ بالوعد المعجزي الإلهي الذي سجلَّه النبي إشعياء في الفصل السابع والعدد الرابع عشر. ذلك الوعد المبارك يقول: “… يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً. هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ” (إش 7: 14).
إنه لأمرٌ معزيٍ جدًّا. لأن يوسف حصلَ على أكثرِ من كلماتِ الملاكِ في الحُلم. حصلَ على الحقِ الموعودِ على فمِ الرب نفسِه في الكلمةِ المُقدسة. الروح القدس وهو المؤلفُ الإلهي لمضامين الكتاب المقدس هو الذي حقق حَبل مريم. وهو الذي أوحى للنبي إشعياء أن يُخبر مُسبقًا عن الميلاد العذراوي. الروح القدس سَجَّلَ الوعدَ في الكلمة وهو الذي وضع نفسًا بشرية جديدةً في رحم العذراء مريم. الآن كُلُ مخاوفِ يوسُف زالت.
ومع ذلك فإن رسالةَ الملاكِ أعطت يوسف ما كان هو ومؤمنون كُثرٌ آخرين في انتظاره من جيلٍ إلى جيل عبر عدة قرون. كانوا في انتظار المُخَلِّص الموعود. قال الملاكُ ليوسف بأن طفل مريم سَيُدعى مُخَلِّصًا أو مُنقذًا. وهذا معنى الكلمة العبرية المترجمة عربيًّا بالاسم “يسوع“.
هكذا، كما نَفَخَ الروح القدس في آدم الأول فصارَ نفسًا حيَّة، نَفَخَ من جديد في رحمِ العذراءِ مريم ليهبها نفسَ إنسانٍ جديد، لا علاقةَ له بخطيةِ وسقوطِ آدم الأول. ما حُبِلَت به مريم هو من الروح القدس. ذلك لم يُشكل قُدومَ مجردِ عضوٍ جديدٍ للبشرية. إنه تحقيقٌ مباشرٌ للوعدِ بالخلاصِ الإلهي. ابن العذراء مريم دُعي يسوع أي مُخَلِّصٌ، كما دُعي عِمانوئيل أي الله معنا.
هذا المعنى العميق للكريسماس. الله بنفسه ينضمُ لبشريتنا كآدم الجديد، عمانوئيل، الله معنا. وكآدم الجديد، أتى لخلاصِ نسل آدم الأول الفاسد الساقط. يسوع هو آدمُ الجديد، وهو يؤسس بشريةً جديدةً بعملِ كلمتِه وروحِه، وهو يجمعها من كافةِ شُعوبِ الأرض، تمامًا كما وعد الرب إبراهيمَ بأنهُ في نسلهِ تتباركُ جميعُ قبائلِ الأرض.
في الكريسماس نحتفلُ بانضمامِ الربِ لجنِسنا البشري، ليهبَنا الخلاص. نعم، يسوعُ هو مُخَلِّصنا. هذا ما يجب أن نحتفلَ به جميعًا في يومِ الكريسماس. هللويا.